جنوب سوريا.. الفيدرالية الثانية

جنوب سوريا.. الفيدرالية الثانية

إيران تقول ما لا تضمر، وتضمر ما لا تقول. وكم ستبتهج عمامة المرشد الأعلى لنظامها إن قررت سوريا مرغمةً أن الفيدرالية طريقها، مثلما قررت مرغمةً وقبل ستين عاماً بأن البعث طريقها، فالنظام السوري متمكنٌ من فنون شقّ الطرقات، لكنه خائبٌ في تعبيدها، وكان عليه أن يستعيد بالقوة المناطق التي استعارتها منه قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق البلاد، وأعلنت فيدراليتها من هناك في آذار/ مارس عام 2016، كان عليه فعل ذلك قبل أن تدخل الفكرة في الدورة الهرمونية للونا الشبل مستشارة بشار، وتصير تصرّح بين الفينة والأخرى بضرورة استعادة نفط وغاز تلك المنطقة، لا المنطقة نفسها، وقبل أن يصير الحرس الثوري الإيراني كريماً، يُغدق على النظام خطوط ائتمان لا تحصى، نفطٌ خام كثير بسعر مدعوم ودفع مؤجل، مقابل شراء البلاد بشروط ميسّرة لا تحصى ولا تقبل التأويل. إيران التي باركت في الخفاء تلك الفيدرالية الكردية، ستبارك سواها وفي الخفاء، فعمامة مرشدها ترتاح أكثر في ظلال سوريا المشظّاة، المنقسمة، التالفة، الضعيفة، والمستجدية أيضاً.

 

إيران التي لا تغادر!

يبدو "نتنياهو" في جولة حكمه الحالية لإسرائيل أكثر جديّةً من السابق بتصفية النفوذ الإيراني، وتقليم احتمالات نموه على الأطراف الملاصقة لحدود الدولة العبرية، لا نجده يمزحُ هذه المرّة، وإن اختلف مع إدارة البيت الأبيض على توصيف إيران نووياً، فهو يقول إنه بإمكانها حالياً تصنيع قنبلتين ذريّتين على الأقل، فيما تعتبر الإدارة الأمريكية أن إيران تحتاج عامين إضافيين لتتمكن من فعل ذلك.

يختلفان في التوصيف، فيما تُقصف محطة أصفهان للطاقة النووية بطائرات مسيّرة تنطلق من الأراضي الإيرانية، ربما "فاعل خير" من قام بذلك، لا يهم، لكن إسرائيل تبتهج، وتسارع للتحصّن خلف إجراءات أمنية مشددة، وكانت قبل أيام من قصف المحطة قد اقتحمت بواسطة وحدة مدرّبة من جيش دفاعها  منطقة "حرش كودنة" في ريف القنيطرة الجنوبي، واعتقلت سوريين اثنين يعمل أحدهما لصالح الأمن العسكري، والآخر يعمل لصالح المخابرات الجوية، وتعتقد إسرائيل بأنهما يخدمان في محطة تقدّم إيرانية على الجزء المتاخم لخط وقف إطلاق النار. فإيران لا تفهم، بأنها تورطت في لعبة نفوذ إقليمي أكبر من ثقلها الجيوسياسي بكثير، تُركت تتمدد كفقاعة صابون في هواء سوريا ولبنان والعراق واليمن ليسهل على الجميع رؤيتها وهي تتلاشى كهلامٍ قلويّ رقيق الجلد. وبالرغم من تنامي نفوذها في سوريا، وتموضعها داخل مفاصلَ اقتصادية وعسكرية وأمنية هامة وحيوية، غير أنها لا تمتلك أيّة قاعدة اجتماعية تدعّم بها تلك المكاسب، لا في مناطق سيطرة النظام، ولا في سواها، لذا نجدها تراهن على دفع النظام السياسي السوري إلى مزيدٍ من الإفلاس السياسي والاقتصادي يجعل من بنيته المركزية بنيّةً هشّة ورخوة، ويرجّح منطقَ خيار الأقاليم المستقلة إدارياً، ولا سيما في جنوب سوريا، وهي الجغرافيا التي تتوفّر بها الشروط الموضوعية والذاتية لإقليم مستقل إدارياً عن نظام دمشق على غرار منطقة الإدارة الذاتية للأكراد.

تحب إيران اللعب على التناقضات المحلية في سوريا، وتحبُّ تعميقها، خاصةً تلك التي تحكم طبيعة العلاقة بين نظام الحكم والمجتمع، وتحب إسرائيل اللعب على التناقضات الإيرانية، وخاصةً ما استجد منها قبل نصف سنة، وهو عمر الاحتجاجات الحالية في الداخل الإيراني، وسيكون هذا العام هو عام الصيد الإسرائيلي الوافر لإيران الطريدة على الأراضي السورية.

 

الجنوب على مائدة الفيدرالية مجدداً

تدل كلمة "فيدرالية" ذات الجذر اللاتيني على معنى الميثاق، وفي السياسة هي اتحادٌ طوعي بين مجتمعات عرقية أو دينية أو سياسية تربطها أهداف مشتركة، وهي أيضاً نظام حكم يجمع بين ولاياتٍ أو دول عدّة بحيث تكون سلطة الولاية أو الإقليم قويةً، وقادرة على سنّ التشريعات والقوانين الخاصة بها، وإدارة شؤون منطقتها بصورةٍ ذاتية، ومستقلة عن مركز الحكم، بالإضافة إلى ثقل السلطة المركزية للاتحاد ودورها البديهي في إدارة الجسد العام. وهذا النظام السياسي لا نجده في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما في الهند وإسبانيا والأرجنتين وأستراليا والنمسا وبلجيكا وكندا والبرازيل، وربما في سوريا لاحقاً. إذ قد يكون النظام الفيدرالي هو المخرج القسري لتلكؤ الحل السياسي، وتغليفه برداءٍ من برودة لا تنتهي، ولا يمكن هنا تجاهل التواطؤ الإيراني كقوة احتلال مع النظام السوري كعصابة تحكم البلاد في توليد صيغة طاردة للحياة تشمل كل الجغرافيا السورية التي تطالها قبضة النظام وتجسدها الواقعي، فإيران تشرف منذ ثلاث سنواتٍ على الأقل على جعل دور الدولة السورية يطابق الصفر الحسابي في مناطق سيطرتها، أي جعلها تتخلّى عن دورها الرعائي للمجتمع، فلم تعد تقدّم أبسط الاحتياجات البديهيّة من ماء وكهرباء ووقود، الأمر الذي دفع سكان درعا مؤخراً إلى توجيه الأموال القادمة كهباتٍ من الداخل والخارج تحت مسمّى "الفزعة"، والتي بلغت مليارات الليرات السورية إلى شراء خدماتٍ باتت حكومة النظام عاجزةً عن تقديمها، مثل ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، والتي يمكن تركيبها على مراكز الهاتف الأرضي، ومحطات ضخ مياه الشرب، لتجاوز حالة انقطاعهما الدائمة. تلك "الفزعة" نجد ما يشبهها لدى الدروز، وإنْ بنطاقٍ أضيق لجهة المبالغ التي تمكنوا من جمعها كتبرعات من الأهالي والمغتربين، لسدّ الفراغ الكهربائي الذي تركه نظام دمشق المركزي حين غادر مشهد الحياة العامة.

ثمَّ، ألا نجد في كلّ ذلك دلالاتٍ تشير إلى احتمال قيام إقليم مستقلّ إدارياً في الجنوب السوري، وخلال العام الحالي. حيث بات الفضاء الاجتماعي يتقبّل أيّة وصاية خارجية قد تنتشله من قاع هذا العدم الذي يثابر على الالتصاق به، وصار بإمكان الدروز الحديث بجديّةٍ عن فتح معبرهم الحدودي مع الأردن لاستقبال البضائع، وربما التفاوض معها لأجل تزويدهم بالكهرباء والمشتقات النفطية، دون أن ننسى بأن قانون مكافحة "كبتاغون الأسد" يمكّن الولايات المتحدة من دخول الجنوب السوري عسكرياً متى تشاء لتطبيقه، باعتبار أن الأردن يشكّل بوابة العبور الرئيسية لمخدرات النظام السوري أثناء وجهتها اليومية إلى دول الخليج، كما أن حكومة نتنياهو الحالية تبدو مستعدةً وبصورة واقعيّة هذه المرّة لدخول الجنوب السوري، بعدما فشل الروس مراراً بإبعاد الإيرانيين مسافة 85 كيلو متر عن خط وقف إطلاق النار، كما كانت ترغب إسرائيل. 

يبقى اختيار التوقيت المناسب لنقل كلّ هذه الافتراضات النظرية إلى حيّز التنفيذ الواقعي، هو الشغل الحالي للولايات المتحدة وإسرائيل فيما يخص الملفين الإيراني والسوري على السواء، وقد تصلح أيّ لحظة منذ الآن وحتى نهاية العمر الافتراضي لقانون مكافحة "كيبتاغون الأسد" البالغ ستة أشهر لتكون لحظةً عميقة ومفصليّة، تُحدث تبدّلاً كليّاً في سوريا، وربما في المنطقة برمّتها.             

   

التعليقات (3)

    صبري

    ·منذ سنة شهرين
    الجنوب السوري حتى قبل حرب النظام كان مهملا كليا من قبل الطغمة المتسلطة فلم يقدم النظام المافيوي اي مستلزمات الحياة ناهيك عن البنية التحتية كل ما هو موجود من مبادرات موسسات المجتمع المدني غير الرسمية ومن تضحيات اهالي المنطقة وذويهم في الخارجي وبعد حرب العصابة المجرمة ع الشعب اصبح الوضع اكثر سوءا بل ماسويا النتيجة ان هذه المناطق تسير امرها بنفسها ولا تحتاج لنظام مافيوي لا يقدم لها الا القتل والدمار والخراب

    قفطان عزالدين

    ·منذ سنة شهرين
    اولى الاولويات اجتثاث حزب البعث ومن المفيد الانضواء تحت السياده الاردنية وكل حدود سايكس بيكو لم تعد مجدية وطرد بكل السبل للوجود الايراني الجيو سياسي والاقتصادي والاستفادة من القوانيين الامريكية بخصوص الكبتاجون سيما في الجنوب السوري والمهم التعاضد بين السهل والجبل والقنيطرة بكل تلك الأمآلات راي مواطن لا للأسد وإيران والروس والترك

    مطلوب تفسير

    ·منذ سنة شهرين
    لم نفهم كيف لإيران أن تتلاشى كهلامٍ قلويّ رقيق الجلد. وبالرغم من تنامي نفوذها في سوريا؟ وأيضا قول الكاتب: الأمر الذي دفع سكان درعا مؤخراً إلى توجيه الأموال القادمة كهباتٍ من الداخل والخارج تحت مسمّى "الفزعة"، من الذي يرسل هذه الهبات. مقال به تناقضات كثيرة
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات