يعد مُصطلح "خيانة المُثقّفين" الذي أطلقه الروائي الفرنسي "جوليان بندا "في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته الصادر عام /1927/ أول من طرح المصطلح وعمّمه وتأثر به كثير من المفكرين مثل "غرامشي" الإيطالي و"إدوارد سعيد" الفلسطيني، ويرمز هذا المصطلح إلى تخلّي المُثقّفين عن استقامتهم ونزاهتهم الفكرية والذين تستميلهم مُغريات السلطة والجماهير فتقودهم إلى الانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية.
لا يزال النقاش محتدماً ومفتوحاً على مصراعيه حول دور المثقّف داخل مجتمعه، وحول العلاقة المُلتبسة بين المُثقّف والسلطة، ودور الأنظمة المستبدة في إقصاء دور النُّخَب، والقائمة تطول في هذه المسألة الجدلية، لكن ثمّة أساسيات يمكننا رصدها من حيث المبدأ وهي أحد أهم أدوار المثقف صاحب العقل الواعي وهو مبدأ " النقد" لأنه يمثّل ضمير الأمة ولسان الشعب الناطق ضد الظلم والطغيان والفساد، وليس بالتزامه الحياد والحالة الرمادية والصمت كما عبّر عنه جوليان بندا بمقولته:" هوس الحياد، كأي هوس، يميل دائماً إلى الظلم".
يمكننا على ضوء ما جاء عند هؤلاء المفكّرين دراسة هذه الظاهرة وإسقاطها على دور المثقف السوري خاصة الفنانين منهم، الذين كانت لدى بعضهم مواقف مخزية تجاه الجمهور العريض الذي كان شغوفاً به مثل دريد لحّام، ياسر العظمة، ورفيق سبيعي، حيث ارتبطوا بذاكرة السوريين الشعبية وكانوا أكثر احتكاكاً من العاملين في حقل الكتابة الإبداعية مثل أدونيس أو حقل الفكر مثل نبيل فياض أو حتى الحقل الديني.
الوطن دائماً على حق!
انتقد جوليان بندا أبناء جيله من المثقفين منطلقاً من المقولة التي طرحها موريس باريس "حتى لو كان الوطن مخطئاً يجب أن نعتبره محقّاً " أي بمعنى "وطنهم دائماً على حق" وهنا تكمن المفارقة المتلوّنة في تفسير الوطن، فالوطن على حسب تعبير دريد لحام في أحد لقاءاته أنه "كالأم المريضة" وبالتالي يتوجّب علينا أخلاقياً مداراتها والوقوف إلى جانبها، بمعنى حدّد هوية الوطن في حكم الدولة فقط! وبالتالي يكون العلاج على يد أجهزة القمع وأذرع الجيش الذي دمّر حواضر المدن، ضد كل من يثور من أجل تغيير واقع بئيس مطالباً بالحرية، فالمرض حسب مفهوم دريد لحام هو باختصار الربيع العربي. كذلك كان هذا شأن جميع الفنانين الذي انصاعوا للعنجهية الأسدية المختزلة في شعار" الأسد أو نحرق البلد". ومن هنا ينطلق جوليان لفكرة المعيارية المتلونة عند هؤلاء والتي عبّر عنها فلاديمير لينين:" المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها".
يذهب" كارل ماركس" إلى أن المثقف هو في جوهره ناقد اجتماعي، وهو الشخص الذي ينصبّ اهتمامه على التعرف والتحليل، وبهذه الوتيرة يساهم في التغلب على العقبات التي تحول دون الوصول إلى نظام اجتماعي أفضل أكثر إنسانية وعقلانية، على هذا النحو يصبح ضمير المجتمع والمتحدث باسم القوى التقدمية كما هو الحال في أي فترة معينة من التاريخ. وعلى هذا النحو، فإنه يُعتبر حتماً "مثير للمشاكل" و "مصدر إزعاج" من قبل الطبقة الحاكمة الساعية إلى الحفاظ على الوضع الراهن، وكذلك من قبل العاملين في الفكر في خدمتها الذين يتهمون المثقف بأنه طوباوي أو ميتافيزيقي في أحسن الأحوال، تخريبي أو مثير للفتنة في أسوأ الأحوال.
من هنا نرصد الازدواجية كجزء من إشكالية الطرح لدى بعض المثقفين السوريين الذين وقفوا ضد الثورة السورية والربيع العربي بل أدانوها ووقفوا بحجة الحياد أحياناً مع نظام فاق إجرامه النظام النازي، مثل أدونيس الذي غلبته طائفيته التي استفاقت على حسب تعبير المفكر السوري "صادق جلال العظم"، فكيف تعامى أدونيس عن صور قيصر ومجازر الكيماوي كيف تسامح مع نفسه وهو يرى البراميل تدك المدن العريقة؟ أليس من مفارقة كبيرة أن يصمت عنها، بل ويدين الثورة في أكثر من مناسبة، وهو الذي يدعو إلى القطيعة والثورة على اللغة! على مبدأ "التنوير لا التثوير" تلك المعيارية التي قامت عليها محور الحداثة والقطيعة لدى كل من المثقفين الراديكاليين، والذي يستعمله مثقف السلطة من مناورات فكرية خسيسة إذ يتحدّثون بعجرفة عن انتهاكات حدثت في بعض الفصائل الثورية كي يبرروا الممارسات والانتهاكات الجسيمة التي كانت تشرف عليها أجهزة الدولة والتي تعد جريمة حرب. تجلى ذلك واضحاً حين يتم سؤال أحدهم عن الممارسات القمعية لنظام الأسد ليكون الجواب على رأس لسانه: انظر ماذا فعل الإرهاب...
وانجرف كثير ممن يدينون بالولاء للنظام من الفنانين حتى بلغ الأمر بهم لاتخاذ موقف مثلاً في مسلسل "كونتاك" والتي تظهر في أحد لوحاته الفنانة أمل عرفة وهي تقوم بكامل وعيها بتحريف حقيقة القصف الكيماوي الذي تعرّض له أبناء الغوطة بعد أن أثبتت التحقيقات الدولية تورّط النظام في تلك المجزرة، لتهزأ بآلام ملايين الأمهات السوريات، فالقضية لم تعُد في الموقف الرمادي والذي يفكر فيه الفنان من أجل كسب جمهور الداخل ومؤسسات الدولة. الأمر تعدّى إلى تشخيص الواقع السوري الحالي كما ظهر الفنان ياسر العظمة والذي استفاق من بعد سباته الطويل، ليُتحف جمهوره ومحبّيه بأن ينتقد بعض المؤسسات الحكومية من الدرجة الثالثة، بمعنى أن هذا النقد موجود حتى في الإعلام الرسمي للنظام، متجاهلاً السبب الحقيقي لدولة المافيات والعصابات الطائفية، و أنهار من الدماء ومجارز ضربت البلاد طولها وعرضها، معتبراً نفسه أنه يمسك العصا من منتصفها فلم يسلم من انتقاد الطرفين الحاد له، ونحن نفترض أن المثقف قد وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة ما أو موقف أو رأي لجمهور ما أو جماعة أو يكون في موقف نيابة عنها، ليقوم بتمثيل تلك الفئات من الناس والقضايا.
بين سلطة الأمر الواقع وسلطة الحقيقية
يعي إدوارد سعيد ما يحدث حين يفقد المثقف استقلاليته بسبب ارتباطه بعمل مؤسساتي يتبع لجهة ما، أو عمل سياسي، ما يفقده صوته الناقد والمحرج ويعطيه صوت المؤسسة صاحبة السلطة فيظهر كأنه أحد أبواق السلطة يقول:" إن أقل ما يجدر المثقف عمله أن يكون همّه إرضاء جمهوره: فالعبرة الأساسية برُمتها أن يكون محرجاً، ومناقضاً، بل حتى مكدّراً للصفو العام". إن التبعية العمياء للسلطة الدكتاتورية أدت إلى إقصاء النخب والترويج لبعض المحسوبين عليها، هؤلاء ممن مسختهم خدمتهم المتزلفة بتقديم الدعم الأعمى لسلوك نظامه والتغاضي عن جرائمه، لا يتحركون باسم أي قيم إنسانية حقيقية، بل باسم أيديولوجيات ومنطق أحزاب ودول وجماعات منغلقة على نفسها لا تسعى إلا إلى نشر الكراهية وشتى أنواع العداوات في سبيل ما يُخيّل إليها أنها قيم ترتبط بالخير والحقيقة والجمال. ما يجعل الآخرين يفقدون ثقتهم بالنخب، حيث لا أمل بالتغيير إذ يعتبر المثقف مجرد تابع عميل أو أحد أبواق السلطة، يطلق أنصاف الحقائق ويطرح أنصاف الحلول، يستعين بأدوات تحليل مضحكة اتهامية إنشائية تافهة تغوص عميقاً في الرداءة وتتجاهل المشاكل الجوهرية لتبرير الأوضاع المتدهورة للمجتمع، وتزييف وعي الناس بإلهائهم عن أوضاعهم، وصنع المشاكل الزائفة وتسطيح القضايا برؤية تكرس خيانة المثقفين للقضايا المصيرية تماماً تمنح شرعية للطغاة وتدين الثائرين، تلك التبعية هي أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية أخلاقية في المجتمع السوري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1ـ "خيانة المثقفين" تأليف: جوليان بندا، عن دار "الروافد الثقافية وابن النديم"، ترجمة: محمد صابر، لبنان، عام 2019 .
2ـ "خيانة المثقفين؛ النصوص الأخيرة" تأليف: إدوارد سعيد، عن دار "نينوى للدراسات والنشر والتوزيع" دمشق، ترجمة: أسعد الحسين، صادر عام 2011.
التعليقات (14)