البندول والصراعات

البندول والصراعات

ما هو البندول؟! كرة معلقة بخيط تبقى في حركة مستمرة تتأرجح جيئة وذهاباً، ومن هذه الحركة المستمرة سُمّي مصطلح البندول الفكري أو الطاقي.

فالبندول مصطح يُطلَق على كل جدال مستمر أو صراع فكري تخوضه وتعيده في عقلك بلا توقف، أي إنه مكوّن غير مادي، لا يظهر للعيان ولكن أثره واضح على الأشخاص الذين يدخلون في مجاله.

فعندما ينشأ أي اتجاه فكري أو صراع  طويل الأمد ( كالقضية الفلسطينية مثلاً)،  يتشكل بمحاذاته ما يسمى البندول الذي يتشكل من مجموع طاقات وأفكار الأشخاص الذين يتبعون هذه الفكرة أو ممن يركزون عليها في حياتهم، والأمثلة كثيرة كالتعصب لقومية ما، أو احتقار طائفة معينة؛ بندول المرأة والرجل، الموالاة والمعارضة، العنف والسلام. 

 باختصار؛ أي فكرة تتحول إلى جدال أو صراع متكرر، يمكن تسميتها بندولات تتغذى من الصراعات والتكرار وتجر أصحابها إلى مجهول قد لا يرضيهم. والأهم أن رفض الفكرة له نفس قوة تأييدها فكل منهما يمنحها القوة ويعيدها إلى الحضور بقوة في المحيط. كما نلاحظ في كل (ترند) يملأ السوشيال ميديا. 

وأقرب فكرة للبندول هي المشادّات الكلامية، فعندما تشهد عراكاً ما وتنفعل معه ربما تجد نفسك بعد قليل تصرخ أو تتحدث كلمات نابية أو حتى تضرب بسبب تأثرك بطاقة الصراع الذي وضعت نفسك فيه.

إذاً فإن تشجيعك القوي لفكرة ما ( من حيث القبول أو الرفض ) ونسب نفسك إلى جماعة مع هذه الفكرة قد يجعلك جزءاً من المساهمة بالأذى والتخريب من حيث لا تدري، فمشكله البندول أنه قد يجر المجموع  إلى أفكار أخرى أو تصرفات قد لا يوافقون عليها بالضرورة، ولكن تأثرهم بالفكرة والتحيز القوي معها أو ضدها يجعلهم منجرفين مع الأمر متأثرين بطاقة هذا البندول شاؤوا ذلك أم أبوا.

فالبندول يتشكل مع الفكرة أو الصراع  ثم يصبح طاقة لها قوة مجموعة أفكار ونوايا ومبادئ وقيم الأشخاص مجتمعين. ويكون في البداية تحت السيطرة ولكن أثره يكبر ويزداد كلما زاد عدد المتفاعلين بقوة مع الفكرة، حتى يتضخم ويصبح خارج السيطرة، بحيث يبلغ أثره القدرة على تغيير الوعي الجمعي ويشمل لاحقاً من هم خارج هذا الصراع لمجرد كونهم بذات المكان.

 وحتى لو كانت الفكرة المصاحبة للبندول خيّرة بالبداية ولكن الناتج النهائي غير مضمون بالاتجاه الذي تريده، لأن الجو مشبع بأفكار الشر والحروب والدمار، فلا يمكنك ضمان نتائج دوامة البندولات إلا لو كنت تعرف كيفية تحريك البندولات وبرمجة الجماهير.

 ولكن دعاة المحبة للأسف لم يكتسبوا بعد هذه المهارة، في حين أن قوى الظلام تستثمرها بمهارة فائقة.

ساتحدث عن بندول غرقنا فيه لفترة طويلة في سوريا، خفَتَ أثره لفترة ولكنه يظهر كل حين وهو بندول ( موالاة / معارضة) دخل فيه كل من كان موالياً بشدة للنظام ومن يرفضه أيضاً بشدة.

إن أول أثر لهذا لبندول يتجلى في التسمية المقابلة ( شبيح/ مندس )، فقد يكون أحد ما له موقفه من السلطة بسبب فكرة ما مقتنع بصحتها تماماً، وهو شخص محترم في مجتمعه وملتزم أخلاقياً ولكن عندما يسمى شبيحاً فقد تصيبه لوثة من أفعال الشبيحة عموماً، وكذلك الأمر مع آخر مثقف وأخلاقه عالية وملتزم بمبادئه الرفيعة، وقوفه ضد هذا النظام يسمّيه مندسّاً تندرج عليه كل أفعال المندسّين الوضيعة.

الانفعال الشديد تجاه ما يحدث كغضب مبالغ فيه وتوتّر وخصومات حادة  وقد يصل الأمر إلى الحقد والأذى الفعلي، فكم من مرة شهدنا دمار منزل أو تكسير سيارة لشخص لمجرد موقفه السياسي، وهو فعل قد توقفه العقلانية أحياناً ولكن الذين يدخلون بهذا لصراع يصبحون متأثّرين بطاقة البندول وتسحبهم معها إلى حيث لا يريدون.

هل يعني هذا ألّا يكون لديك موقف؟ بالطبع لا فالساكت عن الحق شيطان أخرس ولكن المشكلة هي أن تتخذ الموقف بشكل متطرف وتتفاعل معه بانفعالاتك وتفكيرك أكثر مما يحتمل الأمر. فالفكرة شيء وتفاصيل الواقع شيء آخر. وأي انفعال مُبالَغ فيه سيستدعي ردّ فعل مقابل ليتوازن وردّ الفعل هذا قد لا يعجبك نهائياً.

ما المشكلة مع البندول؟! المشكلة أن دخولك في طاقة البندول ستدخل طاقة عنوانها العريض الصراعات، وبما أن الجو حولنا مُشبَع بشتى أنواع الصراعات، فالدخول بالبندول يعني أن تتأثّر بكل أنواع الصراعات. لأن شعورك عندها يشبههم ويسهل اشتراكك فيما يخوضون، فربما تلتقط طاقة المتصارعين على السلاح، أو تجار المخدرات مثلاً. أو المتصارعين على المال. والأخطر أولئك الذين يشتغلون ليل نهار على برمجة الجماهير واستغلال طاقاتها، عبر إبقاء الإنسان بحالة خوف وغضب ليمرروا خططهم الجهنمية، وهو أمر قد يرفضه البعض ولكن بقليل من التفكر ستجد أنه ليس صدفة أن تنجرّ كل الجماهير وراء فكرة خاطئة تماماً ومهما حدّثتهم عنها لا يقتنعون لأنهم عالقون في مصيدة قادة كبار، يُتقنون فن التلاعب بالجمهور وإقناعه بما يريدون عبر أساليب لا زالت حكراً على النخب السياسية. 

والمثال الأكثر وضوحاً لبرمجة الجماهير هو بندول كورونا، فرغم أنه تبيّن أنه خطير بنسبة أقل بكثير من أمراض أخرى أكثر فتكاً وتكراراً كسبب للموت من كورونا ولكن لمجرد تبنّي جهات معينة هذا الإعلان، شاعت فكرة الموت وعمّت الأرض من أقصاها إلى أقصاها. وعندما تكون بحالة الخوف ستسهل السيطرة عليك ويسهل جرّك إلى أية فكرة أخرى، وما الحرب الأوكرانية إلا إحدى نتائجها ولا زلنا ننحدر إلى الخوف العميمم شيئاً فشيئاً.

من هنا علينا الوعي بالبندولات التي علقنا بها ومحاولة الخروج منها بأسرع ما يمكن، وبعد الوعي بها يصبح من السهل معرفة الطريقة الصحيحة للتعامل معها.

إذاً ما هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع البندولات؟ وكيف أحمي نفسي من الأثر السلبي للبندول؟

 الفكرة الأولى بسيطة وهي عدم الانفعال العاطفي مع أي فكرة سواء بالرفض الشديد أو التحيز الشديد، فكل ما في الكون له الحق بالوجود وله دوره الخاص ورفضه هو رفض لجزء من الطبيعة.

 فدمار الحرب جزء من البناء بطريقة ما، ولو كنت تكره الحرب بشدة مثلاً يصبح أثر شعورك مشابهاً لأثر المتمسك بالحرب والمستفيد منها حتى لو كان مختلفاً بالاتجاه . لذلك لو وجدت فكرة معينة ترفضها، ولم تستطع إيقافها: بإمكانك التوقف عن التفكير فيها والابتعاد عن الحديث عنها والجدال حولها، أي إضعافها بالتجاهل فقط لأن أي فعل آخر يقوّيها.

أما الثانية فهي نشرات الأخبار لأنها المصدر الثابت والمتجدد لإبقائك ضمن البندول وربط طاقتك، وخاصة أنها تعتمد مبدأ التخويف فهي تركز على أخبار العنف والموت، ما يُبقيك في طاقة الخوف التي تعتبر أكبر مصدر لتغذية الصراعات. 

بإمكانك اتخاذ الموقف الذي تريد وتلتزم بما يتطلبه بأفعال تناسبك، وتدعم مبادئك؛ أي نفّذ كل ما تريد فعله ولكن دون الكثير من الكلام ودون تفاعل عاطفي قوي، أي الإبقاء على حياد مشاعري والاكتفاء بالفعل المناسب فقط، ولو لم تستطع حل مشكلة توقف عن التفكير فيها، فالانفعال أو الكلام الذي لا يترجم بفعل لا يفيد أحداً،  سوى التوتر والإرهاق، بينما يبعث الفعل على الراحة التامة. ببساطة انتقل من طاقة التفكير المتكرّر العاجزة إلى طاقة الفعل المؤثرة. 

ثالثاً العالم مليء بالأشياء الجميلة كما هو مليء بالأمور المُرهِقة، وكل ما تركز عليه يزداد في عالمك، مهما نضبت مصادر الوفرة في عالمك ستبقى مالكاً للطبيعة حولك. للأطفال الجميلين مثلاً. 

يمكنك أن تستبدل نشرة الأخبار بالنظر إلى السماء عشر دقائق يومياً فهذا كفيل بإزالة نصف همومك، ابحث عن الجمال وعن الأشياء الطيبة ستلاحظها بدل التركيز على المعاناة والأوقات السيئة،  فكل حدث مهما كان مؤلما أو مفرحاً سيزول أثره بعد يوم أو اثنين، وأنت من تغذّيه باستمرار التفكير فيه، يمكنك أن تتخذ قراراً قوياً بأنك ستختار الأشياء التي تضيع وقتك عليها وماذا تفيدك أو تفيد العالم حقاً. 

التعليقات (3)

    فاعل خير

    ·منذ سنة شهرين
    مقالي طيبة كثير وخاصة مقالي البندول طالعة غير شكل مع أنه البندول الاحمر غالي. علما أنه هي المقالي مكانها جريدة الثورة بأحسن الاحوال. صحة وعافية على قلب الجميع

    القيشاني

    ·منذ سنة شهرين
    بدأت بقراءة ما كتب سطر سطر قم صرت اقفز سطرين سطرين ثم فقرة فقرة وخلصت اطالب اورينت بتعويض عن الخمسة دقائق التي انفقتها في قراءة هذه المصفوفات من الاسطر

    فراس

    ·منذ سنة شهرين
    متأكدين انو مو نهلة عيسى ولا عبد الله الرمحين كاتب هي المقال
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات