في محاولة لتدعيم أسسه الاقتصادية التي تتداعى بشكل متسارع، خطا نظام الأسد خطوة إضافية بالتوجه إلى أثرياء الحرب وكبار التجار، وإطلاق أيديهم في اقتصاد مناطقه، من خلال إعطاء المستوردين منهم صلاحية تحديد أسعار المواد الأساسية وغيرها، دون تحديد سقوف لها، مع انسحاب الحكومة من أداء هذا الدور المعطى لها بموجب الدستور، وتنصلها من مسؤولياتها بقرار، لا يفتح الباب أمام تحرير الأسعار فقط، وإنما يفتح أيضا أبواب واسعة لولوج كارثة ارتفاع أسعار أكثر حدة من ذي قبل، على حساب الأهالي واستنزاف جهدهم، ومرتباتهم الضئيلة، واستجرار ما تبقى لدى قسم قليل منهم من أموال، من خلال سطوة المستوردين.
قرار النظام الذي أصدرته وزارة التجارة وحماية المستهلك قبل أيام بصيغة تعميم داخلي تضمن تحرير الأسعار، ولم تنشر على معرفاتها الرسمية، كما درجت عليه سابقا، إذ طلبت الوزارة من مديرياتها متابعة الإعلان عن الأسعار في الأسواق، وفق الفواتير التداولية التي تحرر من قبل المنتجين والمستوردين وتجار الجملة، واعتماد فواتيرهم أساساً في تحديد مبيع المستهلك وفق نسب الأرباح المحددة، في حين أوقفت الوزارة نشرة الأسعار التي تصدرها كل نصف شهر، فيما كان لافتا أن الوزارة التزمت الصمت إزاء التعميم ولم تنشره على معرفاتها الرسمية كما كان متبعا.
تعميم الوزارة تسرب بداية من خلال صحيفة الوطن التابعة للنظام في 18 من الشهر الحالي تحت عنوان: " بعد قرار التموين بتحرير الأسعار اللحام للوطن: سيسهم بتوافر المواد في السوق والتاجر يعاني من تغيرات سعر الصرف يومياً"، وبررت الوزارة في تعميمها تحرير الأسعار بـ التغيّرات المتسارعة في بنود التكاليف، لا سيما سعر الصرف وارتفاع تكاليف مستلزمات الطاقة، ولاستمرارية تدفق المواد في الأسواق وتداول الفواتير الحقيقية".
تجار حكومة ميليشيا أسد يرحبون بتحرير الأسعار
واستحوذ تعميم وزارة التجارة وحماية المستهلك على ترحيب تجار وصناعيين، إذ وصفه عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق ياسر اكريم في حديث لصحيفة الوطن الموالية بأنه بداية انفراج اقتصادي بالنسبة للتسعير، لافتاً إلى أن الوزارة أصدرت التعميم في هذا التوقيت من أجل تصحيح مسار عمل سابق، وصدوره يعطي أريحية بالعمل للتاجر.
وبينما رحب رئيس اتحاد غرف التجارة السورية محمد أبو الهدى اللحام بتحرير الأسعار داعيا إلى التوجه لاقتصاد السوق، وتعديل بعض التشريعات، وصف الصناعي عاطف طيفور التعميم بأنه أهم بنود جذب رأس المال التجاري والصناعي، ويفتح أبواب القدرة التنافسية بشكل متسارع وغير مسبوق.
التعميم هو تغيير لنظام الحكم الاقتصادي
وبالمقابل أثار التعميم ردود فعل سلبية من قبل عدد من الخبراء الاقتصاديين التابعين للنظام، إذ رأى الأستاذ في كلية الزراعة بجامعة تشرين، الدكتور أمجد بدران، بحسب موقع هاشتاغ الموالي، قرار تحرير السلع بأنه يحمل في طياته تغييرا مؤقتا رسميا لنظام الحكم الاقتصادي في سوريا وقال: هو قرار منشأ لآلية قانونية يستند عليها التاجر والمنتج والمستورد في تسعير بضاعتهم دون خوف الملاحقة القضائية”.
وأضاف بدران أن التعميم كشف فشل بعض مواد المرسوم 8 الذي يهدف إلى حماية حقوق المستهلك، وضمان سلامة الغذاء، ومنع الاحتكار، وقال إن من كتب نص المرسوم لا يعرفون شيئا عن السوق وكتبوه من خلف مكاتبهم.. وهنا قرار وزاري سيجمّد نص أعلى منه أي سيجمّد مواد قانون”.
لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد السابقة ذكرت من جانبها لموقع هاشتاغ: أنه لو كان يسود الاقتصاد جو المنافسة الكاملة، ولو كان هناك دعم للعملية الإنتاجية والاستيراد مفتوح للجميع بدون عراقيل ومعوقات لكان تحرير الأسعار وتطبيق قوعد السوق التي تفترض استقرار السعر عند نقطة توازن العرض والطلب قرارا إيجابيا ونتائجه في مصلحة الكل مستهلكين ومنتجين”.
وأضافت عاصي في ظل مستوى الاحتكار الكبير والانفلات السعري الذي تشهده الأسواق، فإنّ هذا التعميم قد “يرفع الأسعار إلى مستويات غير مقبولة من شأنها تعميق الفجوة الكبيرة بين المتطلبات والدخول”.
تحرير الأسعار كارثي
في حين وصف خبراء في الاقتصاد لموقع ”هاشتاغ”، قرار تحرير الأسعار في هذا التوقيت بأنه كارثي، وأن مثل هذا القرار كي يحقق نتائج إيجابية يجب أن يسبقه تنفيذ سياسة تخلق توازن بالسوق بين العرض والطلب وتنهي الاحتكار.
وأكدوا أن النشرات التموينية كانت “حبرا على ورق” ويتحجج بعض التجار بارتفاع تكاليف الإنتاج والاستيراد ويقومون برفع الأسعار قبل صدور التعميم، متسائلين عن الجهة التي ستحدد وتتأكد من حساب التكاليف الفعلية للمستوردات والعملية الإنتاجية لتحديد نسبة الربح.
مكتب أسماء الأسد السري
الجهة التي ستحدد الأسعار بحسب الباحث الاقتصادي يونس الكريم هو المكتب السري الذي يتبع أسماء الأسد، ويقول الكريم لأورينت: إن تعميم وزارة التجارة وحماية المستهلك يهدف إلى إعادة بناء نظام جديد للسوق يقوم على "الفوترة" وهذه سيكون مسؤولا عنها مكتب أسماء الأسد.
ويضيف الكريم إنه بموجب التعميم سيتم تقسيم السوق إلى قطاعات كل قطاع يتبع لأحد المستوردين ما يعني أن القرار يرسم دولة موازية تتحكم بالشراء والطلب، بينما يقتصر دور وزارة التجارة وحماية المستهلك فقط على تقديم الدعم للمستوردين والاستثمارات والإعفاءات وملاحقة صغار المنتجين الذين هم خارج المنظومة وهنا تكمن الخطورة.
وقال الكريم إنه بعد التعميم فإن أثرياء الحرب هم من سيتصدر مشهد المستوردين كرجال أعمال من أمثال القاطرجي، ويفرضون سطوتهم أكثر، بحيث يصبحون جزءا من المشهد الاقتصادي، في إطار توجه النظام نحو النيورأسمالية، بمعنى الحامي للثروات وبخدمة هؤلاء ويقدم لهم الامتيازات مقابل تغذيته بالأموال، بينما هم يحصلون على امتيازات وسيكونون وسطاء بين النظام وبين الخارج في إطار عقود الاستثمار في قطاعات الدولة، ولا سيما عندما سيتم طرح المؤسسات على الخصخصة.
تداعيات التعميم
تداعيات التعميم ظهرت سريعاً، وارتفعت أسعار المواد الأساسية، إذ سجل سعر كيلو غرام السكر في أسواق دمشق 7500 ليرة بعد أن كان الأسبوع الماضي بـ 6500، بحسب ما رصده موقع سناك سوري الموالي، في حين ارتفع سعر كيلو الأرز من 6500 إلى 8500، وليتر الزيت من 17 ألف إلى 19 ألف ليرة، في حين قفز سعر صحن البيض من 17 ألف ليرة إلى 24 ألف ليرة، بينما بلغت نسبة زيادة الأسعار على الأدوية 50 بالمئة.
ومن جهة ذريعة النظام بتوفير السلع، فإنها وبحسب ما اتضح من حركة السوق فإنها ستكون بأسعار مرتفعة إذ إن الأهالي لا يملكون القوة الشرائية في ظل تجاوز نحو 90 بالمئة منهم خط الفقر، ما يعني ازدياد الأوضاع المعيشية سوءا، ولا سيما يأتي في وقت تتكبد الليرة خسائر متتالية خلال الربع الأخير من العام 2022، مع استمرار شحّ المشتقات النفطية، ما تسبّب بارتفاع مختلف أنواع السلع والخدمات.
تحرير الأسعار يتعارض مع الدستور
ويتعارض التعميم مع البند الثالث من المادة 13 من الدستور التي تكفل بموجبه الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والإستثمار وتمنـع الإحتكار فـي مختلف المجـالات الإقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل، بما يخدم الاقتصاد الوطني، كما يتعارض مع المرسوم 8 حول حماية المستهلك، ولا سيما المادة 11 التي تعطي وزارة التجارة وحماية المستهلك صلاحية تحديد الأسعار على أساس التكلفة مع تحديد نسبة الربح، واتخاذ إجراءات لمنع الاحتكار.
ويتضح من التعميم أن النظام يريد توسيع سطوة أثرياء الحرب ولا سيما المستوردين الكبار، في دائرة اقتصاده الضيقة، واتباعه حلا عسكريا في الاقتصاد، بسبب فشله في إعادة دوران عجلة الانتاج، ونضوب موارده، بعد تدميره البنى التحتية خلال السنوات الماضية وهدم المدن والبلدات والمنشآت، يُضاف إلى ذلك تسديد ديون مترتبة عليه لروسيا وإيران العاجزتين عن دعمه، مع عجزه هو أيضا عن الانتقال من اقتصاد الحرب إلى ما بعده، وبقائه معزولا بسبب تعنته برفض الحل السياسي الذي يعد الأساس في إزالة العقوبات وإنعاش الاقتصاد.
التعليقات (9)