"عندما بلعت الحياة لسانها" تعريف آخر للنجاة السورية

"عندما بلعت الحياة لسانها" تعريف آخر للنجاة السورية

جربتُ استعمال فعل أقل قسوة من "نجوت"

في كل مرة حاولت فيها أن أكون...

لكنني أدركت متأخراً أنني أتقن من كل شيء ما يكفي لأنجو

وأن الكائنات لا تنجو مما تحب

بهذا الدخول الذي يتيح تعريفاً سورياً لمعنى النجاة، والذي يأخذ فعلاً أكثر قسوة من سواه - برأي كاتبه - يستهل الشاعر السوري "عبادة عثمان" مجموعته الشعرية المعنونة بـ "عندما بلعت الحياة لسانها" والصادرة مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر. ثم يترك المجال لقارئه أن يلِجَ عمق دوامته الشعرية الرتيبة حد التفرد. هذا الشاعر العابر للحياة دهشة كانتحال الضحية أوصاف قاتلها، إلا أنه لم يترك خلفه ما يدل على إجرامه، فارتكب عدداً من القصائد النظيفة في هذه المجموعة؛ النظيفة من حيث ارتكازه إلى المعنى، ومن خلال استخدامه للغة تكاد تكون عالية في شكلها، إلا أنها تستقر مضموناً في حضن القارئ ببساطة. 

يعتمد "عبادة" في مجموعته تقنيات عديدة في كتابة قصيدة النثر، فمن ذاته ينطلق إلى الآخر، يشاركه الهموم، يرسم له خطوطاً يومية، تكاد تكون عظيمة، إلا أنها في زاوية أخرى تُرى بعين البساطة، فها هو يُخرج العالم من كرتونته المهترئة، يفككه قطعاً صغيرة، يفحصه، ثم يعيد تركيبه، ويصرخ منتصراً: لقد أصلحت العالم. ربما توحي ظاهر هذه الكلمات بعظمة رؤية الشاعر لنفسه، إلا أنها في العمق تدل على كمّ الخراب الذي يعايشه، ويحاول إصلاحه.

في حين يؤكد في النقطة الأخيرة عندما يكمل: "تعبت من إصلاح العالم كل ليلة". هذه المأساة التي تتلصص من بين سطور الشاعر، ليست إلا دلالة على احترافه تصدير أوجاعه بطريقة بعيدة عن الرمزية الفجة، قريبة كثيراً من البساطة العميقة. 

أنا زبال هذه المدينة 

كلما شاهدتُ كسرة قلبٍ على حافة الرصيف 

نفضت عنها الغبار وقبلتها وأعطيتها لأول جائع صادفته.

من القطعة السابقة ومن معظم النصوص في المجموعة، يتبين كذلك جنوح الشاعر نحو تقنية السرد الشعري، فقد اعتمد تسطيراً للنص خاصاً به، كما اقترب حد الاشتباك مع القصة القصيرة جداً، وفي هذا دلالة أخرى على براعته في السير على خيط رفيع يفصل بين القصة القصيرة جداً وبين الومضة الشعرية، حيث يؤكد شعرية نصه الخالصة من وحدة الموضوع، والصور المبتكرة، وأحياناً التكثيف في طرحها. 

يكاد "عبادة" لا ينفصل عن أناهُ في معظم نصوصه، وقد يُعتبر هذا التموضع ممجوجاً، لكن في انتحاله شخصيات عديدة، تخلص من هذه الصفة، فهو حيناً زبال المدينة، وحيناً آخر الموظف، وأحياناً الشاعر والعاشق.... إلخ. 

أنا قالب طيني للخيبة

يشرب الساعات كالنحاس المسال

كلما شربت أكثر زاد جفافي

يكفي أنني أنجبت تمثالاً لخيباتكم قبل أن تناموا

وتلقيني يد صانعي في نهر الأحلام وأموت عطشاً.

كما لم يخرج الشاعر من إطار المأساة السورية، فهي أثقل من أن تمر عليه أو على أي إنسان من دون أن تثقل كاهله، وفي "بلعت الحياة لسانها" حلت المأساة كلعنة، فبحسب وصفه: "المسافة الأقصر بين نقطتين، ربما زر على شكل هاتف أخضر. قديماً كانت الدواب ترسم الطريق، اليوم خرائط جوجل، قديماً كان يقطعها اللصوص، اليوم ضابط الجوازات". فمن خلال هذه القطعة أو السطر الأخير يُظهر "عبادة" أسباب معظم خيباته التي حمّلها في قصائده، هي اللعنة السورية التي تتمثل للشاعر بجواز سفر ربما لا يخوله سوى للرحيل إلى السماء. إذ يؤكد في شطر من النص ذاته: "لكنني أمضيت بقية حياتي في غرفة صغيرة دون الحصول على التأشيرة". 

ومثله مثل كل السوريين يراقب الحرب، ليست فقط الحرب التي نشبت في وطنه، بل تلك التي تدور رحاها في داخله أيضاً: 

الحرب على الشاشات

الحرب في السوبر ماركت ومحطات الوقود

الحرب في مكاتب التصريف

الحرب في درجة الحرارة 

الحرب في كل مكان

دون أن أرى قطرة دم واحدة هذا اليوم.

وفي اتجاه آخر، نلاحظ أنه لم يركن صوره الشعرية أو تراكيبه إلى الموروث الثقافي أو الأدبي أو الديني، كما في عادة كتّاب هذا النوع، بل ابتكر نسقاً أكثر خصوصية، حيث استجلب بضع مفردات وجمل علمية وأقحمها في نصه؛ ليكوّن منظومة شعرية محملة حملاً معرفياً علمياً، فيقول: "النجاة نسبية أيضاً. عفريت هذا الآنشتاين كان دقيقاً بشكل نسبي..." 

وهذا لا يعني انحيازه نحو شكل واحد فقط، بل تظهر أيضاً التراكيب العصرية في مواضع كثيرة حين يقول: "وأنتم ترفعون أجهزتكم الجوالة... ولفرط ملله كوّرني ولعب بجسدي "سكواش" طوال الليل..." فإذاً نستطيع القول إن الثراء في الموضوعات عموماً، وحتى داخل النص الواحد هي سمة بارزة في أسلوب الشاعر ومجموعته.

وأخيراً، سنرجع إلى معنى النجاة الذي حاول الشاعر إلقاء تعريف جديد له، وربما هنا نستطيع فهم ذلك التعريف بشكل مبسط بعدما مررنا بخُطًا متوترة على كلماته. النجاة بالنسبة للشاعر، هي نجاة من الحرب والموت المباشر، إلا أنها تتلخص في معظم المجموعة، بموت بطيء بعد النجاة الأولى، الموت بشكل متكرر من الخيبات، الموت من الرتابة والخراب الذي يعم عالمه الصغير، الموت حنيناً، الموت لغياب مستقبل واضح في الأفق، الموت دهشةً مما حدث ويحدث.

لتنجو وردة من تحت الركام في آخر الرواية

يجب أن يموت جميع الأبطال، ويدوي في البعيد صوت طفل فقدَ لعبته، وتصحو جدةٌ لم تكن النجاة تعني لها شيئاً

لتعلّم الصغير كيف ينسى.

  • عن الكتاب والكاتب:

"عندما بلعت الحياة لسانها" مجموعة صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا. وقد جاءت في 113 صفحة من القطع المتوسط.

"عبادة عثمان" شاعر سوري من مواليد دمشق 1989

صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "ينامون على الحافة".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات