دُعيت منذ مدة لحضور مؤتمر عالمي في العاصمة الإيطالية روما لإلقاء محاضرة عن أثر ثورات الربيع العربي على واقع البحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا في البلدان العربية التي حدثت فيها الثورات بحضور عدد من الخبراء لمناقشة مستقبل البحث العلمي والابتكار في المنطقة العربية وعن كيفية تقليص الفجوة المعرفية بينها وبين الدول التي حققت نمواً في هذا المجال وفي هذا السياق.
رصدت ما آلت إليه ثورات الربيع العربي التي انطلقت في تونس ثم أعقبتها مصر وليبيا وسوريا واليمن والتي ما زال بعضها يعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وحروب أهلية، وأكدت أن الدول الاستبدادية لم تبدأ بعد بالاستثمار في البحث العلمي لا قبل ولا فيما بعد ثورات الربيع العربي.
ووفق أرقام "اليونسكو" منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، تحتل المرتبة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية بإنفاق 28%من إجمالي الناتج المحلي على البحث العلمي، تليها الصين 20% ثم الاتحاد الأوروبي 19% واليابان 20% وباقي الدول 23 %حصة الدول العربية فيها 0.07% من الناتج القومي الإجمالي.
في ذكرى الثورة التونسية
بعد 12 عاماً من حرق محمد البو عزيزي نفسه أمام بلدية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية لعربه كان يبيع عليها الخضار وبسبب إهانة شرطية له أمام الملأ، بعدها أضرم على الأقل 50 مواطناً عربياً النار في أنفسهم لأسباب متشابهة تقليداً لاحتجاج البوعزيزي، واليوم في ذكرى مرور 12 عاماً على الثورة التونسية الآلاف من التونسيين يشاركون في مسيرات احتجاجية بالعاصمة تونس ضد الرئيس التونسي قيس سعيّد وتنديداً بالوضع الاقتصادي المتردي. رفع متظاهرون لافتات تطالب برحيل سعيّد. وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.
صحيح أنه بعد أن أضرم محمد البو عزيزي النار في نفسه، أنهى بذلك ماضيه وحاضره، لكن ناره لم تنطفئ، وألهبت مشاعر ملايين آخرين من أبناء جلدته، وأنارت كهوف كرامتهم المعتمة والآسنة رغم أن معاناتهم لا تقل قسوة و ألماً عنه، بل ربما تزيده في بعض البلدان.
لم يجد الإنسان في هذه البلاد ما يجابه به النظم الفاسد والحكام الطغاة والفقر المحيط به من كل جانب سوى مساحة متر بمترين في الأرض يدفن فيها، بدليل هذا الاندفاع المفاجئ نحو الموت رفضاً للمذلة.
مع احترامنا لكل فاصلة ونقطة في بحوثنا العلمية، ولكل برغي وعزقه في اختراعاتنا ولكل ذرة و قارورة في مخابرنا، مع تقديرنا لجميع من يعمل في هذا المجال في الوطن العربي ولكن أود أن أسأل : ما الفائدة من البحوث العلمية إذا كانت بمعظمها تابعة لإدارة الامن القومي و وزرارة الدفاع ؟ ما الفائدة من أن تكتب عن العلوم في هذه البلدان، ولست قادراً على تغيير حذاء ابنك المهترء أو شقتك السكنية الرطبة في القبو و غير قادر على منع بلدية منطقتك من قطع شجرة معمرة في حيّك.
أما الذين يحدثونك عن طفرة في البحث العلمي والطاقة البديلة والنانوكنولوجي في دول الخليج فأجيبهم بالتالي: كيف يمكن أن يحدث هذا ومعظم المدن الكبيرة في هذه البلدان لا يوجد فيها شبكات صرف صحي وإن وجدت فبمعايير متدنية علمياً بحيث زخة مطر بسيطة لمدة ربع ساعة تمتلئ الشوارع الرئيسة فيها بمياه الأمطار ممزوجةً بمياه الصرف القادم من المصانع والمشافي والمساكن والمتجه نحو البحر من دون معالجة ما يؤدي إلى التلوث ونفوق الأسماك وخروج الشواطئ من الخدمة السياحية.
كيف يمكن أن تكون دول النفط طفرة في العلوم ولديها أكبر مدن ملوثة في العالم من ناحية مصانع تكرير و استخراج النفط مروراً بالمدن الصناعية دون مراعاة التدابير الوقائية الضرورية لحماية البيئة والإنسان.
كيف يمكن أن تكون هذه الدول متقدمة تكنولوجياً ومعظم مواطنيها ومقيميها يشربون من مياه الآبار وقليل منها تُحلي مياه البحر بتكلفة مرتفعة جداً وتنقل إلى مدنهم البعيدة من أجلهم بينما المدن القريبة من محطات التحلية محرومون منها.
كيف تَعد هذه الدول بإحداث نقلة نوعية في المعرفة والبحث العلمي من خلال نقل وتوطين تكنولوجيا الطاقة الخضراء في العالم العربي وهي من أكبر الدول التي تردم بحارها وتشجع على ذلك بهدف استثمارات تجارية آخر اهتماماتها البيئة.
وما جدوى أن يكون لدى دولنا العربية كلها أو معظمها تشريعات خاصة بالبيئة والبحوث العلمية ، ولكن لا يتم تطبيقها.
ثم، لم وجدت هذه البحوث أصلاً؟ أليس من أجل مستقبل الانسان وتعزيز العلم و المعرفة بين الأمم؟
فأين مثل هذا المفهوم الآن فيما بيننا؟
لا أرى أي تفاهم بين غالبية السلطات العربية وشعوبها سوى تفاهم الجزار مع خرافه وحوار الشعارات المكبوتة مع الدبابات وراجمات الصواريخ.
ماذا يفعل العالم الكبير أمام صفعة شرطي مثلاً؟ أو باحث ومخترع على مرمى رشاش أو شظايا قذيفة؟ فقبل احترام العلوم يجب احترام الإنسان الذي هو هدفها النهائي.
وبالتالي لا يمكن أن تتقدم هذه الشعوب العربية إلا عندما تتجمع لديها الرغبة ليس بالموت بل بالحياة وأن تحسها بكل تفاصيلها وتقوم بثورة أولاً: ضد عبوديتنا وممارساتنا الإدارية الفاسدة وسلوكنا الشحصي المقرف تجاه بعضنا وتجاه البيئة المحيطة بنا وثانياً: ضد تخلفنا العلمي والأدبي الذي ينام في عقولنا منذ قرون.
وبذلك سنرى أنفسنا كباراً أحراراً و كم هي حكوماتنا أسيرة وخاضعة لإرادتنا.
التعليقات (23)