تشهد المنطقة برمتها تحولاتٍ على صعيد إعادة العلاقات والبدء بصفحة تواصل جديدة بين أبرز الأقطاب التي تباعدت حتى فترة قريبة، وهي جاءت ثمرة للتحركات السياسية المثمرة، وتوفر الإرادة السياسية والرغبة الجادة لإعادة بناء جسور اللقاءات وتبادل المنافع المختلفة بعد فتور بينها، ووصلت أحياناً لحد القطيعة، خاصة بعد ما يشهده الوضع الداخلي في إيران والذي يؤثر مباشرة على كل تلك الدول، بما فيها سوريا وشمالها الشرقي.
مصالحات عربية وتركية
أول التحركات السياسية جاءت استغلالاً للرياضة، وكان لقاء الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، على هامش افتتاح مونديال قطر 2022، مرسلين مسجات واضحة المعالم، بأن أنقرة والقاهرة تتجاوزان أسباب القطيعة التي وجدت نتيجة للإشكاليات الدولية والإقليمية. والمتغير الملفت كان في المساعدة السعودية لتجاوز الأزمة المالية ومساندة الاقتصاد التركي، عبر وضع وديعة مالية في البنك المركزي التركي بمقدار 5 مليار دولار، وهذه أيضاً رسالة واضحة حول نية الطرفين زيادة فرص التعاون والعمل المشترك ومواجهة المتغيرات الإقليمية المقبلة.
واللافت في الأمر تهنئة رئيس الإمارات محمد بن زايد لأمير قطر تميم بن حمد، على نجاح المونديال الكروي، وهي أيضاً توجه واضح حول التوجهات الجديدة لمجلس التعاون الخليجي لتوحيد المواقف والجهود والاستعداد للتطورات التي تعصف بالمنطقة، خاصة على ضوء مشاركة الرئيس الصيني في القمة الثلاثية، والتأكيد على الموقف الصيني من الحرب الروسية على أوكرانيا، الرافض لرغبة بوتين بتمتين الاستقطاب في مواجهة العالم في حربها ضد كييف، فبكين تصر على احترام سيادة الدول، وأن يكون الحوار هو الأداة الوحيدة لحل المشاكل وهو ما يعني شرارة علاقات طيبة بين بكين وأوروبا وواشنطن.
كل ذلك سيمنح الدول العربية إمكانية عقد تحالفات متينة بين بعضها البعض من جهة، ومع تركيا من جهة ثانية، ومع الغرب من جهة ثالثة، وستكون إيران الحالية ضحية حتمية لهذا التحالف، إضافة لروسيا وحربها ضد أوكرانيا، ومع تقارب وتحالف تركيا ومجلس التعاون الخليجي، فإنه سيؤدي لمنافع مهمة وقوية لصالح أنقرة، خاصة في الانتخابات المقبلة، وفوز حزب العدالة والتنمية؛ فتصفير المشاكل أصبح ممكناً واضحاً للسياسات الخارجية التركية. ولن تجد تركيا حرجاً في فرض شروطها والتي لن تستثني مناطق سيطرة الإدارة الذاتية منها لأيّ تقارب لها مع أيّ دولة.
تقاربات المنافع المتبادلة
يؤكد التقارب فهم تلك الأنظمة أن سياسات التفرد والإلغاء والسيطرة على موارد البلاد، وتغول الإفقار والتجهيل والجوع لا تأتي بنتائج، وأن "الخزعبلات" الإعلامية حول ضعف تركيا وجهل الخليج ليست سوى فقاعات صابونية لا أساس لها، فهي على الأقل اشتغلت لصالح شعبها وقدمت نموذجاً إيجابياً يُمكّن لها حماية مجتمعاتها من أي حرب أو فقر أو جوع، وسهولة إقناع الجيل الجديد بالمستقبل الموعود، بعيداً عن شعارات المقاومة والحياة والتضحيات، والمكتسبات "الشفافة" التي لا تُرى بالعين المجردة. التقارب الثلاثي/تركيا، مجلس التعاون الخليجي، مصر/ سيعني إنعاش آمالٍ كبيرة في حلحلة العديد من المشاكل الإقليمية والعربية كقضية سد النهضة، المشاكل والأزمات في السودان، وليبيا، ورُبما يُشهد تحالف جديد لإنهاء الوضع في اليمن، في حين أن الوضع في لبنان، سوريا، العراق يبقى مرتبطاً بتطور الأوضاع في إيران، ما لم يسارع ذلك التحالف للمساهمة في إيجاد حلول سياسية لن تكون بعيدة لا عن الوضع في إيران، ولا عن تسوية شاملة بينها وبين إيران وسورية المستقبل.
أثر التحالفات على شمال شرق سوريا وثلاث حوارات ملحة
أما مقاربة هذه التحالفات والمصالحات العربية -التركية، وإمكانية تشكيل تحالف ضخم ضد روسيا في أوكرانيا، مع الوضع العام في شمال شرق سوريا، والذي يعاني هو الآخر وضعاً معيشياً وخدمياً مزرياً، ومناخاً سياسياً شبيهاً بالمقاطعة. فإن تكرار الحديث عن العملية العسكرية التركية، يعني عودة ابتزاز موسكو لأنقرة حيال اصطفافها مع العرب والغرب، ورفضها للعملية العسكرية، أو سحب أنقرة لطرف دمشق، خاصة وأن روسيا وتركيا وإيران يشكلون مثلث أستانا، ولن تجد الدولتان أيَّ حرجٍ في الابتزاز السياسي لأنقرة، والحديث الروسي بعدم الإتيان بأي تصعيد في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية وإمكانية توافق قسد والجيش السوري يدخل في ذلك الاتجاه، وربما جاءت المساعي الروسية للمصالحة التركية السورية لإعادة خلط الأوراق مجدداً وكسب تركيا لصالحها، وأعتقد أنه لا روسيا ولا كل الدول العربية مستعدة لتقديم أي عزم ومساندة لقسد في مواجهة تركيا، والموقف الأمريكي والغربي أيضاً واضح في تفضيل كفة تركيا على كامل كُرد سوريا، ولكل منهم شروطه ومصالحه.
أمام كل التشبيك وفك العقد بين تركيا والعرب، ورجحان كفة أنقرة في الاختيار العربي والغربي على حساب الكرد، فإن الحل الوحيد الذي يملكه كرد سورية هو السلام والحوار على ثلاث محاور، الأول: داخلي بين الطرفين، أحزاب الإدارة الذاتية والمجلس الكردي، وفي المرحلة الثانية مع جبهة السلام والحرية، وإعادة هيكلية الإدارة الذاتية، فالشراكة السياسية والعسكرية أفضل من عشرات المعارك والحروب. والثاني: فتح صفحة علاقات واضحة بين التشكيل الجديد مع مختلف الأطراف السورية والعربية وتركيا وإقليم كردستان. أما الثالثة: فتخص تركيا ووضعها الداخلي، وإعادة تفعيل عملية السلام المتوقفة، وإعادة إحيائها عبر توسط قوى إقليمية، وخير من يمثلها إقليم كردستان العراق برئاسة السيد مسعود البرزاني والذي سبق وكان له دور فاعل ومحوري في تلك العملية، خاصة أن قوىً وأحزاباً كردية عديدة بدأت تنشط في الساحة السياسية التركية، والخروج بتسوية عادلة ترضي الأطراف الفاعلة فيها هو الخير الوفير على الكرد في تركيا وسورية والعراق، وتجنيب المنطقة من كردستان العراق حتى دير الزور والرقة المزيد من إراقة الدماء وطحن البشر، وبطبيعة الحال ستكون تركيا أول المستفيدين منها أيضاً.
لدى قسد وكامل منظومتها السياسية قدرة فائقة على إجادة قراءة الرسائل السياسية، وهي كما اعتقد، أدركت أن استمرار الضغط في إيران سينعكس على كامل مناطق ودول تواجدها العسكري والسياسي، وإن تقارب وعمل الدول العربية مع بعضها ومع تركيا سيعني لوحة سياسية جديدة في مواجهة روسيا وإيران؛ خاصة وأنها دول تبحث عن حلول مستدامة لمشكلات شعوبها ومستقبلها، والاستقرار في دول أخرى تهم أمنهم القومي والاقتصادي، وهي كما يبدو مستعدة للقطع مع الماضي، والقضايا التي تسببت بمشاكل مركبة لها جميعاً، أو أن دخول أنقرة لحلف موسكو ودمشق، سيعني اتفاقية أضنة جديدة في الشمال الغربي. وإن كل هؤلاء الفواعل الإقليميين في سوريا لن يجدوا حرجاً بالتوافق مع بعضهم لأي قضية تخصهم، ولن تكون مناطق شمال شرق سوريا بعيدة عنها. فإلى أين يتوجه شمال شرق سوريا أمام كل هذه التغيرات الإستراتيجية التي تعصف بكامل المنطقة؟، ووفقاً لحسابات وموازين القوة وفائض التسليح العسكري والبشري، فإن الكفة مرجحة دوماً وأبداً لصالح أيّ تدخل عسكري تركي في المنطقة، علماً أن خيار الحل والسلم والحوار هو أفضل وأنجع الحلول في حده الأدنى للحفاظ على ما تبقى من الجغرافية البشرية والسياسية للكرد في سوريا.
التعليقات (2)