القفزة التركية في الفراغ

القفزة التركية في الفراغ

شكّل الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع وقادة أجهزة مخابرات روسيا وتركيا والنظام السوري مرحلة جديدة من عمر الثورة السورية، خاصة بعد إعلان تركيا عن رغبتها بالتطبيع مع نظام ميليشيا الأسد الطائفية، ونيتها الانخراط العملي في عمليات تسوية قادمة، جاء هذا اللقاء في نقطة مفصلية يعيشها الطرفان تركيا وسوريا، تركيا المقبلة على انتخابات برلمانية ورئاسية فيتوجب عليها تحقيق المناخ السياسي الملائم خاصة بعد التضخم وانهيار الليرة التركية وارتفاع نسبة البطالة، كل هذا يجعلهم يندفعون من أجل كسب ثقة الناخب التركي عبر مناورة عودة اللاجئين التي تعبر الورقة الرابحة في الصندوق الانتخابي، ويمكن القول إنها مقامرة على طاولة الثورة السورية، خاصة بعد الحديث عن رغبة بالتعاون مع النظام الطائفي بعودة قرابة أربعة ملايين لاجئ، دون توفير سبل العودة الآمنة وعلى رأسها تبديل رأس الإجرام الطائفي، بشار الأسد ونظامه، كذلك لا يوجد مناخ ملائم لعودتهم من بنى تحتية وأماكن للعيش الكريم تحت وطأة الفصائل المتناحرة والمتنازعة في الشمال السوري، والسبب الثاني الذي يدفع تركيا للقيام بهذه الخطوة الجريئة هو علمها أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى إقامة كيان كردي مستقل في الشمال السوري، مما يشكل خطراً بحسب تصورهم على الأمن القومي التركي. 

هل تستطيع تركيا تعويم نظام بشار المتهالك؟ وهل تقدر تركيا على تجاوز الدول الإقليمية الفاعلة مثل الولايات المتحدة الأمريكية؟

نستطيع القول لما لتركيا من امتداد عسكري وديموغرافي في الشمال السوري وعمق إستراتيجي عند فصائل المعارضة وما لها من تداخلات جغرافية معنية بشكل مباشر تجعلها من أكثر الدول فعالية على أطراف المعارضة، لكن هل هذا يكفي لتقوم بتعويم نظام الأسد وإضفاء شرعية على النظام المجرم؟ يمكننا القول ببساطة إنّ تركيا دولة فاعلة لكنها غير قادرة على تجاوز تلك الهوة السحيقة التي حشر النظام نفسه بها، بعد صدور القانون الأمريكي بمعاقبة نظام بشار الأسد بسبب نشره للمخدرات على صعيد العالم، وبسبب نشاطاته الكارثية تجاه حقوق الإنسان وقانون قيصر وماله من تداعيات ما تزال تُطبخ في أروقة المجتمع الدولي، فلم يساعد النظام الطائفي نفسه حتى في تجاوز مسألة حقوق الإنسان، فلا تزال تطالعنا التحقيقات عن انتهاكات جسيمة في مسألة الإبادة الجماعية والقتل تحت التعذيب وانعدام الحريات بكافة أشكالها، تحول النظام إلى عصابات ومافيات خطيرة، تجعل من الذي يقترب تناله من القذارة أو على الأقل تزكم أنفه تلك الرائحة النتنة من مستنقع الفساد السوري.

 لكن ما يفسر هذه القفزة المتسارعة تجاه النظام المتهالك؟ المتتبع للأحداث الأخيرة لوضع النظام الطائفي يستشف خذلان حلفائه واستدارة البعض له من حزب الله الذي راهن بلبنان من أجل إنقاذ النظام المجرم فسقط لبنان في هوة اقتصادية سحيقة جعلته في الحضيض مع  تفاقم أزماته السياسية، كذلك إيران الغارقة في المظاهرات والتي تقبع تحت عقوبات غربية قاسية، ودخولها في مرحلة الشلل الاقتصادي الخانق، وكذلك روسيا والمستنقع الأوكراني الذي جعلها تقلص من عتادها وجنودها في سوريا، كل ذلك ترافق مع انهيار شبه كلي للمنظومة الاقتصادية للنظام مما يجعله ضعيفاً سهل التنازل والاستسلام لأي شيء يقدَّم له، خاصة بعد العقوبات الأمريكية الجديدة، لقد أصبح مثل المريض المحتضر والذي يتنازع الآخرون على تركته، ربما يفسر هذا الخطوات المتسارعة من قبل تركيا للتطبيع مع النظام. 

 ومن المعروف أن العائلة الحاكمة في سوريا لها تاريخ قديم في تقديم التنازلات والقرابين من أجل ضمان شروط بقائها، متجاهلة قداسة الأرض والشعب ولعنة التاريخ التي ستطالها كما طالتها حين تنازل حافظ الأسد عن هضبة الجولان، وحين تنازل أيضاً في اتفاقية أضنة عن المطالبة بلواء الإسكندرون الذي تم شطبه من كافة الخرائط السورية، كل هذه الدياثة لنظام عائلة فاسدة مستبدة تجعل تركيا يسيل لعابها من أجل اقتناص تنازلات يقدمها لها النظام الطائفي. لكن ما الذي يمكنها أن تقدمه للنظام من تنازلات فيما إذا توافق الطرفان؟ فيما إذا تجاهلنا مجريات جوهر الصراع بين شعب ثائر يطالب بالحرية والعدالة الانتقالية وبمحاسبة المجرمين وبين من يريد أن يطوي صفحات دامية من تاريخ السوريين دفعة واحدة!

ومن هنا تبرز أهمية القوى الفاعلة في الشمال سوري ورفضها لتلك المناورة التركية، لا يمكننا الحديث عن تعويم النظام، إذ ستكون لها تداعيات خطيرة لو تم ترحيل اللاجئين ضمن اتفاقية غير محسوبة العواقب، فالحزب التركي الحاكم يريد سحب هذه الورقة الانتخابية من يد المعارضة، والنظام السوري يعتبرها شيكاً مفتوح الرصيد للاستثمارات الاقتصادية والمتاجرة ولتلميع صورته أمام الخارج ولربما يعوّل عليها لاحقاً ضمن ما يسمى مصالحة وطنية كما فعل في الجنوب السوري، لكن على نطاق واسع فيما إذا حدثت تلك الكارثة، وهكذا يقفل الدائرة على المعارضة وعلى الثوار الأحرار ليصار إلى المطالبة بإعادة الاعمار والتخفيف من العقوبات الدولية عليه.

لكن هذا السيناريو كله رهن الأحرار كلّهم والقادة؛ سواء كانوا داخل الشمال السوري أو خارجه، يجب ألا يكونوا ورقة تضعها تركيا حيثما شاءت، تلعب بهم وبمصائرهم لغايات سياسية قصيرة الأجل. الآن الجميع مدعو أكثر من أي وقت مضى لرفض تلك المصالحة ورفض كل تداعياتها، خاصة أن النظام الطائفي بدأ يختنق وبدأت تظهر ملامح لأفوله واستئصال شأفته للأبد.

لقد تجاوز النظام الزمن بمراحل وأصبح من الماضي الحديث عن تعويم أو ترقيع أو حتى تمديد ولا يستطيع أحد أخذ القرار نيابة عن جميع الأحرار الذين تمرّسوا في الحرب وذاقوا ويلاتها وعاشوا مأساتها، لا يمكن بهذه البساطة أن يتم تصفية ملايين الأحرار وتصفية ثورتهم ممّن دفعوا كل شيء من أجلها مهما بلغ الجشع السياسي ومهما بلغ التخاذل من قبل بعض الجهات المتخاذلة والتي لها حسابات ضيقة ومحسوبة على الثورة. الثورة السورية أعظم من أن يكون مصيرها متعلقاً بمناورة انتخابية وقفزة غير محسوبة في الفراغ السياسي. 

التعليقات (1)

    الوردة الدمشقية

    ·منذ سنة 3 أشهر
    بلشت تركيا تحسب حساب للأحرار بالشمال والدليل ألغى صويلو جولته ومتل ما انزكر بالاخير الاحرار مانهن ورقة بأيد لا الفصائل ولا حتى تركيا
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات