مآلات الحرب الأوكرانية

مآلات الحرب الأوكرانية

سحبت القوات المسلحة الأوكرانية نصف مليون مقاتل تقريباً في شهر مارس 2022 من حول العاصمة كييف ومدن أخرى إلى الجبهات الجنوبية، وبدأت عمليات هجومية نشطة، لتستعيد الكثير من المناطق التي خسرتها في بداية الحرب... تُوّجت هذه العمليات بتحرير مدينة خيرسون الإستراتيجية بتاريخ 11 نوفمبر 2022. ونتيجة لذلك، ازدادت ثقة الأوكرانيين بأنفسهم وارتفعت معنوياتهم وانتعشت آمالهم بالنصر القريب. لكن الظروف حالت دون ذلك، فقد حل فصل الشتاء سريعاً وساء الطقس، وغُمرت الأراضي بمياه الأمطار والثلوج الغزيرة، لتقف عائقاً أمام حركة الآليات وتقدمها؛ وتمنع بالتالي الجيش الأوكراني من إجراء أي عمليات عسكرية على الضفة اليسرى لنهر الدنبير القريبة من خيرسون أو في مناطق أخرى. إضافة إلى تأخّر وصول الدفعات الجديدة من الأسلحة والذخائر الغربية الحديثة ذات الفعالية العالية، التي يمكنها تغيير المعادلة وإحداث الفارق على الأرض.

بعد الفشل في الاستيلاء على العاصمة كييف توجّهت أنظار الروس نحو السيطرة على الجنوب الشرقي بأكمله، من أوديسا إلى خاركوف، لكي يمنعوا الأوكرانيين من الوصول ليس فقط إلى بحر آزوف وإنما أيضاً إلى البحر الأسود، وجميع بقايا الصناعات الثقيلة، ومناجم الفحم، والموارد الطبيعية الأساسية، ورأس المال البشري... وهذا في حد ذاته، سيقوّض قدرة كييف على خوض صراع مسلح طويل الأمد مع روسيا ويقلل من جاذبيتها باعتبارها "صورة رمزية فاشلة" لكفاح الشعوب الصغيرة من أجل الحرية والكرامة. وعندئذ سيتمكن الروس من تحقيق حلمهم التاريخي بإنشاء إمبراطورية "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة)؛ وتحويل ما بعد أوكرانيا إلى "دولة جذعية"، تعتمد بنيوياً على حكام موسكو.

اعتقد الروس أنهم سيتمكنون من خلال خيرسون من احتلال ميكولاييف وكريفي روغ ونيكوبول وزابوروجي ودنيبروبيتروفسك. ومن ثم الوصول إلى أوديسا لتشكيل ممر بري نحو جمهورية ترانسنيستريا المعزولة إقليمياً. لكن سرعان ما جاءت الأخبار غير السارة واحدة تلو الأخرى، بعدما وصلت أفواج التحرير الأوكرانية إلى حدودها وأخذت تحاصرها... فجأة، أصبحت هذه المدينة نقطة حرجة بالنسبة للمحتلين الروس!

في البداية، قال سالدو القائم بأعمال حاكم تلك منطقة: "لن يتخلى أحد عن خيرسون، الجيش يعرف ماذا يفعل. سيدافع عنها حتى الموت". ومع ذلك، سرعان ما أدلى كيريل ستريموسوف نائب رئيس إدارة المنطقة ببيان معاكس: "على الأرجح، ستذهب وحداتنا وقواتنا إلى الجزء الأيسر من منطقة خيرسون"! 

لقد أرادوا لخيرسون أن تكون بمثابة "ستالينغراد الجديدة" لكنهم لم يستطيعوا؛ بحيث لم يكتفوا بالهروب من قاعدة تشيرنوباييفكا الجوية وإخلاء الناس من هناك بشكل قسري، بل أخرجوا حتى عظام الأمير غريغوري بوتيمكين في كاتدرائية سانت كاترين، وأخذوا النصب التذكارية للقائدين ألكسندر سوفوروف فيودور أوشاكوف...

فقد الروس رأس الجسر الوحيد في خيرسون، الذي يمكّنهم من الدفاع عن التضاريس القريبة وضرب القوات المهاجمة بهدوء، وتعرضوا لهزيمة قاسية تعد بمثابة هزيمة شخصية للرئيس بوتين؛ الذي اعترف أخيراً بأن الوضع في أوكرانيا "صعب للغاية". ومع ذلك، عندما خرج الجيش الروسي من خيرسون منهزماً، احتفظ بالضفة اليسرى لنهر الدينبر حتى يستخدمها كمنصة لضربات الصواريخ وقذائف المدفعية والهاون ويقوم على تدمير المدينة كلياً مانعاً الأوكرانيين من حرية الحركة والمناورة. يمكن القول، ببساطة، إن خسارة خيرسون هي نهاية الخطط الهجومية في الجنوب، فقد أصبح من غير الممكن السيطرة على أوكرانيا بأكملها، ولا حتى على كييف وحدها. ولا يمكن تنفيذ "نزع السلاح" بعد الفشل بالسيطرة على عاصمتها وتغيير السلطة فيها... ربما، في ظل هذه الظروف، فإن الهدف الوحيد المتبقي للجيش الروسي هو الاحتفاظ بالممر البري إلى شبه جزيرة القرم. لا شيء أكثر من ذلك! 

اختارت روسيا شبه جزيرة القرم لتكون مركزاً رئيساً لإعادة تجميع قواتها وتعزيز خطوطها وتعويض خسائرها وتجهيز آلياتها ومعداتها... لكن، الانتقال إلى الدفاع الإستراتيجي لا يحل مشاكلها، ولا يجيب بشكل عام عن السؤال المؤرّق للنخبة العسكرية الروسية: "كيف ستنتصر روسيا في أوكرانيا؟". فقبل الذهاب إلى موقف دفاعي، من الضروري أولاً إيقاف توريد الأسلحة الغربية إلى خط التماس من خلال تدمير جسور نهر الدنيبر، أو عبر محاولة السيطرة على الحدود مع بولندا؛ وهذا الخيار يبدو صعب التنفيذ في الوقت الحالي. خلاف ذلك، ستستمر الحرب لفترة طويلة مع آفاقها الغامضة.

الآن، لا يوجد مناطق مشتعلة سوى في محيط باخموت.. هنا يضغط الروس من أجل استكمال سيطرتهم على منطقة دونيتسك بأكملها رغم الخسائر الفادحة التي يتكبدونها، لأنهم بعد ذلك سيهاجمون كراماتورسك وسلافيانسك الإستراتيجيتين في الجنوب... أما في بقية المناطق، فقد أخذ جنودها يحفرون الخنادق ويبنون التحصينات الدفاعية على طول خطوط المواجهة، لا سيما في منطقة سفاتوفو؛ لكن مع ذلك هذه "الهياكل تتماشى مع خطط الخنادق العسكرية التقليدية التي ظلت دون تغيير إلى حد كبير منذ الحرب العالمية الثانية. ومن المرجح أن تكون عرضة لضربات دقيقة من قبل الأسلحة الحديثة" - حسبما ذكرت المخابرات البريطانية!

لقد دخلت الحرب مرحلة جديدة، تحولت فيها روسيا إلى الدفاع الإستراتيجي بعدما استُنزف جيشها بشرياً ومادياً ولم يعد يتحرك كثيراً إلى الأمام.. إنهم يقومون بإنشاء خط دفاع كامل مجهز بمعدات هندسية يطلقون عليه "خط فاغنر"؛ بعدما استقرت الخطوط الأمامية للجبهات في منطقتي خاركيف وخيرسون.. هذا يعني أن روسيا توجهت نحو حرب الجبهات والخنادق طويلة الأمد والقصف عن بعد حتى توقف حماس واندفاع الأوكرانيين.. إنها تقوم بقصف هستيري للبنية التحتية المدنية وتدمّر منشآت الطاقة، لتترك السكان الصامدين هناك يتجمدون في صقيع الشتاء القارس، دون كهرباء وماء وتدفئة وصرف صحي... هي تحاول إحداث الصدمة وتحطيم الناس معنوياً ونفسياً وكسر روح مقاومتهم وإيصالهم إلى مرحلة اليأس، وخلق المشاكل لهم حتى تجبرهم في النهاية على مغادرة أماكنهم والهروب إلى أوروبا، ما يشكل ضغطاً اقتصادياً وسياسياً زائداً عليها، أو تجبرهم على مطالبة زيلنسكي بالتفاوض حسبما يناسب أجنداتها! 

إن قرار بدء مثل هذه الضربات الضخمة على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، لم يتم اتخاذه من قبل الجنرال سوروفيكين الذي حصل على لقب "هرمجدون العام"؛ بل من قبل بوتين شخصياً.. هذه الهجمات المكثفة بالصواريخ وقذائف المدفعية والهاون وطائرات الكاميكازي على المدنيين والبنية التحتية الحيوية ليست انتقاماً للخسائر التي مُني بها الجيش الروسي والمناطق التي خسرها، بل هي عنصر أساسي في عقيدته؛ وقد انتقلت إلى دول أخرى، وأصبحت أيضاً جزءاً لا يتجزأ من عقيدة جيش الأسد الإرهابي المجرم الذي استخدمها ضد الشعب السوري الثائر لمدة عقد من الزمن، لا سيما في حلب الشرقية!

إن هذا المسار الجديد الذي اتخذته روسيا في الحرب لن يؤثر كثيراً على وضع جبهات القتال رغم إلحاقه الأضرار الكبيرة؛ وهو لن يؤدي إلا إلى زيادة غضب الناس ومقاومتهم وصمودهم وعدم رغبتهم المطلقة في أن يكون لديهم أي شيء مشترك مع هؤلاء الغزاة البوتينيين. يعتقد الروس أنه يجب أخذ هذا التكتيك كأساس، واعتبار الضربات المتزايدة على البنية التحتية الأوكرانية والهجمات المحتملة في قطاعات معينة من الجبهة مجرد محاولات لإجبار أوكرانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على إجراء مفاوضات سلام معهم بشروط مقبولة وليست مخجلة. لكن المشكلة تنحصر في بوتين وصقوره الذين لا يقبلون إلا بهزيمة الخصم كلياً.

أما بالنسبة لأوكرانيا، فهي تعتمد اعتماداً كاملاً على المساعدات الغربية، بينما يعتمد زيلينسكي في الواقع على حراب هؤلاء الشركاء؛ ويبدو أنه لن يتفاوض مع روسيا، حتى لو توقفت أغلب البنية الأساسية للطاقة في أوكرانيا عن العمل، لا سيما وقد أخذ الضوء الأخضر من بايدن للحصول على صواريخ باتريوت الأمريكية الفعالة والمهمة جداً لدرء الهجمات الإرهابية الروسية المجرمة.

تبقى الجبهة الشمالية المحاذية لبيلاروسيا، والتي لا تشكل حالياً أي خطر حقيقي على أوكرانيا، رغم إعلان الحكومة البيلاروسية عن استكمال اختبار الجاهزية القتالية للقوات المسلحة في 13 ديسمبر 2022؛ ولا يمكن لأي شيء هناك أن يهدد مصير العاصمة كييف. لا توجد حتى الآن بوادر لتجميع قوات ضاربة رغم التصريحات الإعلامية الصاخبة حول إرسال قوات مشتركة إلى الحدود من أجل تخفيف الضغط على الجبهات الجنوبية والشرقية. لكن، كل شيء يتوقف في النهاية على ما اتفق عليه بوتين ولوكاشينكو أثناء اجتماعهما في العاصمة مينسك!

ورغم المعاناة الكبيرة وارتفاع تكلفة الحرب ونتائجها الثقيلة جداً على روسيا، حيث وصلت فاتورة الدم البوتيني إلى أكثر من 100 ألف قتيل، واكتظت المستشفيات بالجرحى والمعطوبين، ودمرت نصف آلياتها ومعداتها العسكرية... ورغم الاستياء العام من التعبئة، والانتقادات الواسعة لتلك الحرب الهوجاء الظالمة على الشعب الأوكراني حتى من قبل بعض القادة الروس، كقائد كتيبة "فوستوك" (الشرق) ألكسندر خوداكوفسكي، الذي قال: "إن القوات المسلحة الروسية تواجه مشاكل جمة في مجالات الاستخبارات والاتصالات والدعم اللوجستي وتنسيق العمليات...". ورغم الضربات المُوجعة والانتكاسات المهينة التي كادت تنهي نجاحات جنرالات بوتين الأولية، ما زالت الحرب مستمرة رغم تباطؤ وتيرتها، وما زال نظام بوتين المتعطش للدماء يشن عدواناً دموياً مدمراً على أوكرانيا، مستخدماً أساليب الدعاية السوفييتية للحرب من أجل توفير المزيد من اللحم الروسي لمفرمته لتعويض إخفاقات جيشه في ساحات المعارك. 

لقد اختفى الخطاب الهجومي إلى حد كبير من شفاه المسؤولين العسكريين والسياسيين الروس منذ زمن طويل، على وقع سقوط أسطورة جيشهم الذي لا يُقهر؛ ولم يبقَ منها سوى المقالات والقصص والروايات والأغاني والمسلسلات والأفلام الدعائية. على أوكرانيا تحمّل هذا الشتاء الصعب جداً بأية طريقة كانت، وربما كان الأصعب في تاريخها كله، وإلا ستنهار كلياً؛ ومن ثم امتلاك زمام المبادرة من جديد والعمل تلقائياً على طرد جميع المحتلين الروس وتحديد المصير الكامل للحرب.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات