المباشر وغير المباشر للسياسة الخارجية التركية

المباشر وغير المباشر للسياسة الخارجية التركية

إن أهم عنصر في التحركات التركية للتطبيع مع النظام السوري هو اجتماعي وليس مادي. أي إنه متعلق بالهوية الكوربوراتية للدولة التركية، أي العوامل الداخلية الإنسانية أو المادية أو الأيديولوجية أو الثقافية في تركيا، ثم إن هوية الدولة التركية ومصالحها اللتين تغيرتا نوعاً ما، هما نتاج للتفاعل العالي بينها وبين روسيا في ملفات إستراتيجية عديدة، من باب علاقات الصداقة والتعاون بين الطرفين. من جهة أخرى، فإن العلاقة المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة الناتجة عن السياسة الأمريكية تجاه قسد، لا تعني تجاوز السياسة الأمريكية في سوريا ومواجهتها، فتركيا تدرك عواقب ذلك. فمكاسب التعاون بين تركيا وروسيا من جهة، وتركيا والولايات المتحدة من جهة أخرى أكبر من مكاسب احتواء سياستهما.

ثم إنه من الأمور البديهية أن كثيراً من الوحدات الدولية اتبعت سلوكاً خارجياً تجاه وحدة دولية أخرى بغية تحقيق هدف داخل حدودها، كما إنها اتبعت سياسة داخلية محضة، ولكنها سعت إلى تحقيق أهداف خارج حدودها. أي إن العوامل الداخلية المختلفة، التي تعمل بوصفها تبريرات تتمتع بقوة أخلاقية في الداخل التركي هي التي شكلت هوية تركيا "الكوربوراتية" التي نراها اليوم. أي إننا لا ينبغي لنا التركيز فقط على المجال الدولي الخارجي لتركيا، بل على المجال الداخلي أيضاً مع إعطاء أولوية له. خاصة أن الداخل التركي يعاني اقتصادياً، وهو مقبل على استحقاق انتخابي تاريخي.

وللتوضيح أكثر ينبغي أن نميز بين ما يسمى "بالموضوع المباشر Direct Target والموضوع غير المباشر Indirect Target للسياسة الخارجية. ويقصد بالموضوع المباشر النتائج المعلنة التي تهدف السياسة إلى تحقيقها (المنطقة الآمنة التي تحاول تركيا إنشاءها في شمال سوريا). أما الموضوع غير المباشر، فهو تلك النتائج التي قد تستتر خلف السياسة، ولكنها ليست محددة صراحة كجزء من تلك السياسة (التصريحات التركية المتعلقة بإعادة العلاقات مع النظام السوري). فالسياسة تصنف على أنها سياسة خارجية طالما أنها تهدف إلى تحقيق نتائج خارج حدود الدولة بشكل صريح حتى وإن كانت تلك السياسة تهدف في التحليل النهائي إلى تحقيق نتائج في الداخل وبالمقابل فإن السياسة لا تعتبر خارجية، حتى وإن كانت النتيجة المستترة خلفها تنصرف إلى البيئة الخارجية". 

فإذا ما وضعنا التصريحات التركية الداعية لعودة العلاقات مع النظام السوري تحت هذه العدسة السياسية يمكن أن نقول: إن هذه التصريحات سياسة خارجية موجهة للداخل التركي في إطار المسار الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، هي كذلك حتى لو كانت نتيجتها النهائية داخلية، ولا يمكن اعتبارها سياسة خارجية إزاء النظام السوري حتى وإن كانت النتيجة المرجوة نتيجة خارجية. من جهة أخرى، يتبع صانع القرار التركي براغماتية عالية في إطار إعادة العلاقات مع دول المنطقة، حيث جنى الثمار الاقتصادية والسياسية من التطبيع مع السعودية والإمارات ومصر، وحقق خطوات في العلاقة مع إسرائيل. فالقيمة المتوقعة من التطبيع أكبر بكثير من تكاليف قطع العلاقات، والفوائد المتوقع وجودها لهذه السياسة (التطبيع) أكبر من تكاليف السياسة الأخرى (قطع العلاقات).

أما بالنسبة لإعادة العلاقات مع النظام السوري، يراها البعض حتمية، إلا أنها ليست كذلك. فما القيمة المباشرة التي ستعود على تركيا من ذلك؟ بالنظر إلى الحال الذي وصل إليه النظام السوري اليوم وخاصة بعد العقوبات الغربية (قانون قيصر، وقانون مكافحة الكبتاغون) فإن تكاليف إعادة العلاقات مع النظام بالنسبة إلى تركيا أكبر من الفوائد المتوقعة. وبالتالي، التصريحات التركية الأخيرة عن عودة العلاقات مع النظام السوري لا تخرج عن كونها خطوة إضافية للتقارب أكثر مع روسيا، وكبح جماح المعارضة التركية والتخفيف من حدة الرأي العام ضد اللاجئين السوريين. أي إنها ليست جزءاً محدداً بشكل صريح من السياسة الخارجية التركية. 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن نتساءل عن السياسة التركية تجاه مواطنين أجانب يعيشون على أرضها، كأن تقوم بمنحهم امتيازات خاصة، أو أن تقوم بطردهم. هل تعتبر مثل هذه السياسة سياسة خارجية أم سياسة داخلية؟ يميل البعض إلى ربط ترحيل اللاجئين السوريين بالتصريحات التركية الرامية للتطبيع مع النظام السوري من باب أنها خطوة من خطوات عودة المياه لمجاريها بين أنقرة ودمشق، وهذا مرعب بالنسبة للبعض وممكن أن يتم بالنسبة لآخرين ومستحيل بالنسبة لقلة قليلة.

يمكن القول بأن معيار التمييز هو مدى شمولية هذه السياسة ونوعية الأجانب الموجهة إليهم السياسة. فإذا اتبعت تركيا سياسة موحدة تجاه الأجانب المقيمين فيها، فتصنيف هذه السياسة هو سياسة داخلية، أما إذا خصت فريقاً منهم دون آخر بمعاملة معينة، فإنها تعد سياسة خارجية. ومن جهة أخرى، "إذا كانت السياسة موجهة نحو أجانب عاديين بشكل عام، أي الذين لا يحملون صفة رسمية، فهذه سياسة داخلية، أما إذا كانت موجهة ضد أجانب رسميين (دبلوماسيين مثلاً)، فإنها تعد سياسة خارجية. ومن ثم، فإن قيام الدولة بطرد أحد الدبلوماسيين المعتمدين لديها يعد جزءاً من برنامج السياسة الخارجية، بينما قيامها بطرد أحد الأجانب العاديين لا يعد كذلك".

تركيا تريد منطقة آمنة على حدودها، هذا هو الهدف المعلن والصريح لها في سوريا، وهو ضامن للأمن القومي التركي. وبالتالي، وبعد الرفض الأمريكي والروسي والإيراني للعملية العسكرية التركية؛ كانت التصريحات التركية الجديدة تتعلق باتفاقات قديمة أهمها آستانة وجنيف. أي إن أي نشاط يتعلق بمخرجات تلك الاتفاقات لا يمكن أن يتم دون اللقاء بين الأطراف جميعها، فاللقاء بين وزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا الأخير، واللقاءات القادمة بين الأطراف الثلاثة هي طبيعية جداً، وتراها تركيا مكسباً إستراتيجياً لها بالنظر إلى الحاجة الروسية لها في ملفات كبيرة أخرى، منها أوكرانيا، وملف الطاقة. 

لا أستبعد لقاء الرئيس التركي وبشار الأسد. البعض يرى هذا اللقاء في حال حصوله نهاية للثورة، وإعادة إحياء النظام. من المنطقي أن نقول إن تركيا لا تستطيع تجاوز سياسة الولايات المتحدة تجاه النظام، فقوانين العقوبات التي تستهدف النظام ومن يتعامل معه، تفهم تركيا معناها وعواقب تجاوزها، ولا يجب أن ننسى الشروط التركية لإعادة العلاقات مع دمشق: اللقاء بين دمشق وأنقرة ليس مجانياً، وليس على حساب المعارضة السورية، وأن أي مصالحة يجب أن تبدد المخاوف التركية، وأن تؤمن انطلاق المسار السياسي والوصول إلى نتائج إيجابية، وأن يعود الأمن والاستقرار إلى الحدود السورية التركية، وأن يضمن النظام أمن وحماية العائدين إلى سورية. وذلك حسب ما صرحت به الرئاسة التركية. فهل يستطيع النظام السوري تحقيق هذه الشروط الصريحة؟.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات