بين شارعين

بين شارعين

لا يُلام ضياع متتبعي الثورة السورية من غير السوريين في الخارج إذا ما غابت عنهم الحقيقة، فالمنغمسون بتفاصيل الثورة هم فقط من يعلمونها، والمتابع من الخارج إذ يجد انفصاماً تاماً بين مشروعين وطرحين يتم تداولهما، بين خطاب من تصدر مشهد الثورة السورية من قيادات سياسية وحكومية وعسكرية، وبين خطاب ثوري يتردد صداه ومعناه عبر مظاهرات ووقفات احتجاجية لا تخلو منها ساحات مناطق شمال غرب سوريا أو ما يطلق عليها "المناطق المحررة"، والانفصام بين ذاك وتلك ناجم عن مواقف شبه حدية بين الطرفين، فالمتصدر لقيادة الثورة الحالي يعمل وفق مصالحه الشخصية والمناصبية وطموحاته السياسية أو العسكرية، بينما المواطن الذي ما زال ممسكاً بثوابت الثورة يعمل بما يملك من قوة على إيصال سفينة الثورة إلى بر الأمان والانتصار، وتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها الشعب السوري ضد منظومة لاشرعية ما زالت تغتصب السلطة في دمشق.

منذ انطلاق الثورة السورية المباركة كانت هناك أيد خفية تعمل على مبدأ "إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق"، وعبر تلك الطرق الملتوية والخداعية رُكبت للثورة قيادات سياسية بدءاً بالمجلس الوطني وانتقالاً للائتلاف الوطني لقوى الثورة وصولاً لكل الوفود والهيئات واللجان التي شُكلت لتمثل الثورة السورية، وكلها تشترك بأن معظم من أُسندت لهم مهام تمثيل الثورة لم يكونوا على قدر المسؤولية المناطة لهم، بل كانوا خدماً وممثلين أمام السوريين لمن وضعهم في مناصبهم ومقاعدهم ولمن دحشهم كأعضاء بالوفود واللجان, ولم يكونوا أبداً مخلصين للشعب السوري أو للثورة, وكانت جل أعمالهم يتمخض عنها قرارات ليست بمصلحة ثورة شعب أراد الحرية، وهناك أمثلة لا تعد ولا تحصى بهذا الصدد عن خروقات وعمالات تكشفت داخل مفاصل السلطة، إن كان عبر وفود التفاوض إلى جنيف، حيث كانت فيها اختراقات جمة لم يكن عميل النظام العقيد أنور رسلان حالة شاذة فيها، بل له رفاق يتبعون لأجندات واستخبارات وخارجيات أخرى يعملون لمصالحها ولم تتكشف بعد، وفي مؤتمر أنطاليا للحراك المسلح عام 2012 ضُبط الناطق باسم الجيش الحر والمنسق العام للفصائل وهو يقوم بإرسال معلومات عن الاجتماع وصور للمجتمعين، وتكرر الأمر في مؤتمر الرياض1، حيث نقل لنا البعض ضبط أحد المشاركين بالمؤتمر من السوريين وهو يمد استخبارات الأسد بمعلومات عما تضمنه الاجتماع وتفاصيله وقياداته، وغيرها من الأمثلة، ومؤخراً وباجتماع الهيئة العامة للائتلاف، وهي أكبر "سلطة" سياسية في المعارضة السورية، قال وزير الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة، العميد محيي الدين هرموش، إن لديه معلومات ووثائق تثبت وجود شخصيات مرتبطة بالنظام وتتعامل مع استخبارات الأسد من داخل الائتلاف, ونقل أحد أعضاء الائتلاف أنه مباشرة بعد حديث وزير الداخلية أوقفت جلسة الاجتماع, ومُنع التداول بالموضوع، وشُكلت لجنة ليس لتبيان الحقيقة بل لطمسها، وبنهاية المطاف قيل بأن وزير الداخلية تسرع بالطرح دون أدلة وانتهى الأمر وطمست القضية.

في الحراك المسلح لم يكن الحال بأفضل من الساسة، فمعظم من تصدر المشهد العسكري أصبحت مهمته وجل أهدافه تنحصر بمكاسب وأرباح المعابر والحواجز وجمع الإتاوات ومراقبة بساتين ومعاصر الزيتون، ومنهم من توجه للبحث عن الآثار أو التهريب بشقيه المادي والبشري، إن كان عبر تهريب البشر من مناطق النظام للمناطق المحررة (وبالعكس), أو من سوريا إلى تركيا وقبض عشرات آلاف الدولارات التي كانت تصب بخزائنهم يومياً، أما الجبهات فقد ركنت واستسلمت لتفاهمات تركية روسية وفق ما يفرزه مسار "أستانا" الذي منع فتح الجبهات لبعض القادة الشرفاء، وحظر أي عمل عسكري ضد نظام الأسد وإيران وحزب الله، باستثناء حق الدفاع والرد عند الانتهاكات، وحتى الرد على الانتهاكات ومصادر النيران أصبح عملاً روتينياً لا هدف له لتحقيق مبدأ "إسقاط الواجب" حتى لو كان برمايات عشوائية لا طائل ولا نفع فيها.

في الشق الحكومي عبر الحكومة السورية المؤقتة فحدث ولا حرج عن حكومة تتنافس مع حكومة الجولاني "حكومة الإنقاذ" على من يجمع أموالاً أكثر من جيوب المواطنين عبر قوانين وضرائب، رغم أن الحكومة ليست أكثر من مجموعة مجالس محلية يتشاركون المنافع والمكاسب ما أنزل الله بها من سلطان، أما الدوائر الأمنية والقضائية بكلا الحكومتين فمعظمها تتبع لسلطات الأمر الواقع، وتحكم بأحكامها وفق رغبات أمراء الحرب بعيداً عن أي عدالة أو تحقيق استقرار.

المواقف السياسية المخزية لقيادة المعارضة السورية سواء بمضمونها أو بعدم اتخاذ موقف في معظم الأحيان حيال مفاصل غاية بالأهمية للثورة السورية، دفعت بالحاضنة الثورية للخروج بمظاهرات واحتجاجات ووقفات تحت عنوان" لنعيدها سيرتها الأولى"، والتي استطاعت إيصال رسالتين: الأولى أن قرار الثورة ما زال بحوزة حاضنة الثورة ولن تتخلى عنها، والثانية أن تعهدات من تصدر المشهد السياسي والعسكري والحكومي تمثل متبنيها وهي غير قابلة للصرف في شارع الثورة.

اليوم باتت معظم الدول تدرك حقيقة أن الكثير ممن تعهد وأكد أنه قادر على الإيفاء بما يُطلب منه من خدمات لمشغليه من الدول، وكل واحد فيهم لم يكن سوى دجالاً وتاجر مواقف ومخادع، وأنه لا يملك القدرة على تنفيذ المهام المطلوبة منه سواءاً في الشق السياسي أو العسكري، وأنه باحث إما عن المال أو المنصب، والداخل الثوري كشف كل هؤلاء منذ سنوات وعراهم وفضحهم، ومع ذلك وبقدرة قادر حافظ معظم هؤلاء على مواقعهم ومقاعدهم ومناصبهم.

اليوم توضحت الصورة أكثر، وبتنا أمام مشهدين، وأمام شارعين، الأول تقوده ثلة متهالكة ما زالت تعيد تقديم أوراقها، وتحاول جاهدة إثبات وجودها، في محاولة منها لتأخير ساعة رحيلها عن مشهد تصدر الثورة السورية، والثاني حاضنة شعبية تؤمن بالثورة، وقدمت التضحيات، وعادت لاستلام زمام المبادرة، وتصحيح البوصلة، وتأكيد الثوابت.

يبقى من يراقب المشهد من دول الخارج، هل وصلت تلك الدول لقناعة أن الشعوب لا تُقهر، وأن المراهنة تكون على الحصان الرابح وهو الشعب؟؟ أم إنه لا تزال هناك محاولات لطمر الرأس بالتراب عن الحقيقة الساطعة على مبدأ النعامة، وتأخير اتخاذ القرار على حلم لهم بتغيير الواقع، وإكمال الطريق بمسارات وانعطافات لن تؤدي لأي إضافة جديدة ولن تغير من الواقع بشيء؟؟

التعليقات (2)

    محب بلاد الشام

    ·منذ سنة 3 أشهر
    ما لناغيرك يالله

    للأسف

    ·منذ سنة 3 أشهر
    على الرغم من خقيقة أغلب ما تم ذكره فإن ما يحدث من مظاهرات ورفض لما يتم تدريجيا لن يغير في الواقع شيئا. لم يستطع السلاح والحرب أن بسقطا السلطة في دمشق فهل حقا نعتقد بأن المظاهرات في الشمال ستسقطه؟؟
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات