زوّار الفجر

زوّار الفجر

استقر هذا المصطلح في وجدان العرب عموما والسوريين منهم على وجه الخصوص للدلالة على أجهزة البطش التي غالبا ما تحاول اصطياد معارضي نظامها واعتقالهم من منازلهم أو أمكنة تواجدهم في ساعات مبكرة من الفجر ضمانا للتمكن من (الفريسة) المطلوب اصطيادها(!) .


   وعلى الرغم من أن أجهزة الأمن عموما يفترض أنها قوة إنفاذ القانون، لكنها في الواقع العملي هي غالبا القوى الوحيدة التي تنتهك القانون وتتطاول عليه وتتجاهل موجباته، بل وتدوس عليه (ببساطيرها) العسكرية عند الاقتضاء ولعل أبرز علامة على ذلك هو زيارات الفجر التي تقوم بها لضمان تحقيق الغاية المراد تحقيقها.. فاعتقال الأشخاص لا يكون – نظريا – بمحض مزاجية قادة تلك الأجهزة وإنما يفترض أن يتم بموجب مذكرة توقيف صادرة عن قاضٍ مختص بعد أن تكون تلك الأجهزة قد قدمت له طلبا بذلك مشفوعا بملف يعطي أرجحية لوجوب توقيف هذا الشخص بناء على مضمون هذا الملف الذي يحتوي على مؤيدات لأرجحية ارتكابه لجريمة ما أو ضلوعه بمؤامرة ما. 

   لكن في الدول السلطوية عليك أن تنسى كل ذلك فلا حقوق للناس ولا قضاء يحمي تلك الحقوق المفترضة ويضبط ويراقب عمل الأجهزة الأمنية ومدى امتثالها لحكم القانون، فتلك الأدوات الأمنية هي العمود الأساس لثبات الدولة السلطوية وممارستها لسلطانها في البطش بالمجتمعات والإمعان في انتهاك حقوقها.

   ظاهرة زوار الفجر لم تعد حكرا على الدول السلطوية وحدها فالعديد من الدول التي يمكن وسمها بالديمقراطية أو التي تمتثل لمبدأ سيادة القانون بمستويات مختلفة تقوم في بعض الأحيان بإغارات أمنية بطريقة زوار الفجر على أمكنة أو مساكن معينة لاعتقال مشتبهين أو محكومين أو مطلوبين بتهم خطيرة مختلفة، وبعض تلك الإغارات تتم فعلا وفق إجراءات قانونية وأوامر قضائية، وبعضها يتم خلاف ذلك. 

  في أنقرة العاصمة التركية ومع ساعات الفجر الأولى - والرواية على ذمة بعض المتضررين - قامت قوات البوليس يوم الثامن من الشهر الجاري بطرق أبواب أكثر من خمس عشرة عائلة سورية معظمهم يحملون بطاقة الحماية المؤقتة وبعضهم يحمل أيضا تراخيص رسمية للأعمال التي يزاولونها، واقتادتهم إلى مديرية الأمن ومن ثم إلى مركز الترحيل في غازي عنتاب ليجدوا أنفسهم خلال أقل من 48 ساعة داخل الأراضي السورية، حيث تم ترحيلهم بعد التدليس عليهم أو إكراههم بالتوقيع على طلب (عودة طوعية) لايعرفون مضمونه بحسب ما رواه بعضهم لوسائل إعلام سورية ولناشطين في مجال حقوق اللاجئين(!) . 

   وبطبيعة الحال لا يمكن افتراض عدم صحة الواقعة لأنها رويت على لسان الضحايا أنفسهم وتقاطعت مضامين الرواية وتكررت وقائعها المروية من عدد من أولئك المرحّلين، كما إن مضمونها ينسجم مع السياق العام للسياسات والإجراءات المتبعة من قبل مديرية الهجرة تجاه اللاجئين السوريين منذ عام 2019 على الأقل وحتى الآن، وقبل كل ذلك وبعده لم تصدر رئاسة الهجرة نفسها أي تكذيب للواقعة أو تفنيد لكلام ضحاياها. 

   وكما هو واضح تماما فإن رئاسة الهجرة يبدو أنها اختطت لنفسها نهجا لا يعبأ كثيرا بالموجبات القانونية التي يتعين عليها احترامها والامتثال لها بوصفها جزءا من قانون الحماية المؤقتة الذي هو قانون وطني بالمقام الأول وخاصة لجهة ما نص عليه في المادة السادسة وهي الالتزام بمبدأ عدم الإعادة القسرية وهو ذات المبدأ الذي ورد في تصريح رئاسة الهجرة في معرض ردها على تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش الأخير عندما قالت: (إن سوريا حاليا أحد البلدان التي يُطبّق عليها مبدأ عدم الإعادة القسرية) وهو إقرار منها أن هذا البلد لا يزال من غير الممكن إجبار مواطنيه – السوريين -  اللاجئين إلى تركيا والخاضعين لأحكام قانون الحماية المؤقتة إعادتهم إلى بلدهم لكونه بلدا غير آمن .. لكنها مع ذلك تتجاهل ما صدر عنها من قول، وتتجاهل القانون نفسه وتستمر في عملياتها لترحيل اللاجئين السوريين دون احترام الإجراءات أو المدد الزمنية المقررة قانونا لذلك، ودون حتى تمكينهم من التواصل مع محاميهم أو تمكينهم من اللجوء إلى القضاء للتظلم على قرار الترحيل وبيان خطورته على المرحلين أنفسهم، ودون أدنى اكتراث أيضا إلى أن هؤلاء الأشخاص لديهم أموال منقولة (مفروشات – سيارات – حسابات مصرفية – ديون) يتحتم منحهم الوقت اللازم لتصفيتها والتحصل عليها، كل ذلك لايتم أخذه بعين الاعتبار أبدا في انتهاك صارخ ومتعمد وغير طبيعي للقانون ولحقوق اللاجئين(!). 

   لم يحفل السوريون عموما باللجنة السورية التي شكلتها سلطات الهجرة التركية مؤخرا لتكون ممثلا عن السوريين فتجربة عشر سنوات أثبتت فشل وعجز تلك اللجان عن إنجاز أي خطوة ذات قيمة فارقة في أوضاع السوريين وعدم قدرتها على تغيير بعض السياسات والإجراءات المتبعة من قبل دائرة الهجرة والتي تمس استقرار السوريين وقدرتهم على الشعور باليقين تجاه بقائهم وبناء مستقبل أولادهم في تركيا  .. ليبقى التعويل منصبّا على ما تقوم به المنظمات الحقوقية التركية على محدودية أثره وإمكانية تثميره والدفع بها للاضطلاع أكثر بهذا الملف الشائك . 

   اللاجئون السوريون اليوم لم يعودوا بمأمن من أن يطيح زوّار الفجر - في أية لحظة من أي فجر – بأحلامهم واستقرارهم وجني سنوات شقائهم ليجدوا أنفسهم وقد تم رميهم كشيء لا قيمة له خلف متاريس الحدود على أرض يسطو عليها القتلة واللصوص والمرتزقة وقطاع الطرق يزعمون أنها منطقة آمنة . 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات