سنعيدها سيرتها الأولى: هذا ما بقي لنفعله نحن السوريين

من سخرية الحال في هذه البلاد المجنونة أن جيرانها يتصرفون بجنون، في محاولة وكأن هدفها سوقنا للمقصلة، وللغرابة أن هناك من يدعم ويعزز هذا الجنون، إما بسكوته عن ذلك أو التغني بتلك التصرفات المجنونة من باب استحالة التخلي عن حليف عمره عشر سنوات. على مرأى ومسمع العالم، ستضعنا هذه التصريحات في دائرة التنكيل والانتقام، في وقت سكت فيه الجميع حتى من يدّعون أنهم يمثلوننا في المحافل الدولية، ومازال حليفهم الأساسي يتسلح بهوانهم دون أدنى مراعاة لجراحنا. هنا يأتي السؤال، ماذا بقي لنفعله؟

إن الهدر الذي تعرضنا له نحن الشباب السوري على مدار عقود من الزمن، بدءاً من نظام الأسد إلى الوقت الحالي، قد يكون أثرنا معدوم في هكذا أحوال نمر بها اليوم. ولكن، لم يسبق في التاريخ أن جماعة من الناس أخذوا حقاً من حقوقهم يملكها حاكم مستبد أو من صاحب قوة وسلطة لمجرد أنه يريد إعطاءه لهم، بل يجب انتزاعه بالقوة مع الإيمان بامتلاكها، وإلا لا يمكن تغيير شيء من الواقع. وذلك كما يقول فريدرك دوغلاس. ما أصبنا به هو اعتقاد ترسّخ في قلوبنا أن الواقع أكبر وأقوى من أن نحدث فيه تغييراً. إلا أن تجارب الشعوب تثبت أنه في كل الظروف مهما كانت صعبة يمكن أن تفعل الشعوب شيئاً ما.

ليس المطلوب حملات تخريبية، أو عمليات انتقام، أو ليس المطلوب حركات عنفية، بل المطلوب تحركات سلمية بكل ما للكلمة من معنى في كل مناطق سوريا، ففرص نجاح الحركات السلمية أكبر بكثير من الحركات العنيفة/العسكرية، أو "أن استدامة المقاومة السلمية أطول من المقاومة العسكرية". بمعنى، المقاومة السلمية تضم قاعدة شعبية داعمة أكبر بكثير من المقاومة العسكرية التي حرمنا منها ضد النظام، ففي حال حدث تحرك عسكري ضد النظام فإن استدامته تكاد تكون معدومة، لأن الضامنين في الملف السوري يمنعون ذلك، بينما في حال حدث تحرك شعبي مدني يعبّر عن الوجدان السوري سيكون ذو انعكاسات إيجابية أكبر، خاصة أن هناك تحركاً مدنياً مشابهاً في قلب مناطق النظام، ومناطق قوات سوريا الديمقراطية، أي أن القوة العسكرية أقل من قوة الحراك الشعبي في حال انفجاره.

ولكن، ومن جهة أخرى، فإن الحراك العسكري يمكن له أن يحقق أهدافه بنسبة دعم شعبي منخفضة، إلا أن الحالة السورية وبالنظر لتداخل وتعقد مصالح الفواعل فيها تحول دون قيام هكذا حراك، بينما الحراك السلمي لا يمكن له أن ينجح دون دعم شعبي كبير لأن قوة الحراك الشعبي معنوية، ففي ظل الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها سوريا اليوم والتي هي الأسوأ في تاريخ البلاد، فأكثر من 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر، بل تحت خط البشر، والأمر سيان في مناطق السيطرة المختلفة، والنظام وصل لحافة الهاوية نتيجة العقوبات القاسية، وهذا ما عزز غياب القدرة على إحداث أي تغيير لوضع الناس، وعدم القدرة على إجراء إي إصلاح بنيوي؛ تكون الانتفاضة الشعبية ذات جدوى أكبر بكثير من العمليات العسكرية.

ربما يشجع البعض العمليات العسكرية كون أن نتائجها قد تكون أسرع وأكثر تأثيراً، ولكن وبغض النظر عن منع النشاطات العسكرية من قبل الأطراف الضامنة، فإن الناس قد كرهت الحرب، ولم تعد تقوى على النزوح، أي إنها تفضل حلاً بأقل الخسائر الممكنة، والحل الأهم والأساسي هو إعادة إحياء الأمل وبث روح الثورة من جديد، عبر المظاهرات، والحملات الإعلامية، والاعتصامات، وغيرها من المظاهر، والأهم من ذلك كله هو استمرار هذه المظاهر. يميل البعض إلى وصف السلوك التركي الجديد تجاه القضية السورية أنه تكتيك مرحلي، وبعضهم يصفه بأنه استراتيجية جديدة. بغض النظر عن صحة أحد الوصفين، فإن الحملة الشعبية التي دعا إليها السوريون في مناطق شمال سوريا هي المعبر الحقيقي عن الوجدان السوري الرافض للمصالحة مع النظام، ولا بأس بتذكير تركيا وروسيا وإيران بذلك.

الصدفة اللطيفة التي حصلت هي تزامن الدعوة لإعادة السيرة الأولى للثورة السورية مع الرفض الأمريكي لمحاولات التطبيع التركي مع النظام السوري. مثل هذا الرفض لم يصدر عن الائتلاف والحكومة المؤقتة والفصائل. وأرى أن هذه الصدفة يمكن استغلالها بتوجيه الشكر للولايات المتحدة، لقناعتي أن وجود الولايات المتحدة في سوريا هو مكسب وحيد لنا كسوريين ثائرين ضد النظام، وهناك أمر مهم آخر، وهو ضرورة "إعادة تفعيل التنسيقيات الثورية" وإعادة هيكلتها بما يتناسب مع الظروف الحالية. الحل سوري سوري، ويحتاج لوعي سياسي عالي، وأهم ما نحتاجه هو التصرف بعقلانية وحكمة وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، فهذه الفرصة قد تكون الأخيرة.