كان لخبر وفاة الداعية السورية منيرة القبيسي أن يمر بدون ضجيج يوم الاثنين، لولا الرثاء الجماعي الذي تقدمت به شخصيات من التيار الاسلامي، وتحديداً التيار المشيخي الشامي في المعارضة، الأمر الذي استفزّ الغالبية الساحقة من جمهور الثورة.
كان يمكن أن يثور بعض الجدل لكن دون أن يتحول الخبر إلى تريند على وسائل الإعلام المحلية وفي وسائل التواصل الاجتماعي، لو أن الأمر اقتصر على عدد محدود من هذا التيار، وخاصة الذين كانوا سباقين إلى رثاء الراحلة صباحاً، إلا أنه وبدلاً من أن يتعامل الآخرون مع ردة فعل الجمهور بالمستوى المطلوب من الحنكة والتفهم، كان صادماً الإمعان في استفزاز هذا الجمهور وتحديه بمرور الساعات.
وعليه فقد كان من الطبيعي أن يبلغ الغضب الشعبي ذروته مع نشر الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض، تعزية في المساء أطنب فيها بالثناء على الفقيدة وذكر مناقبها، رغم الهجوم الواسع على زميليه في المجلس، عبد الكريم البكار ومطيع البطين بسبب مبادرتهما إلى القيام بذلك قبل ساعات.
تحدٍّ صارخ للرأي العام لا أدري من نصح الشيخ أسامة بالقيام به، ولا أدري لماذا لم ينصحه القريبون منه بعدم القيام به، لكنني واثق أن ما قام به هو وزملاؤه في المجلس وفي التيار، يعبّر عن قناعة مستقرة لديهم، وهم مستعدون للتعبير للإفصاح عنها مهما كان الثمن، باعتبار ذلك واجباً لا يمكن أن يسقط، وتأديته فرض عين وأصل شرعي لا يقبل النقاش!علّمتنا التجارب السابقة مع هذا التيار أن الانتماء له مقدم على كل الاعتبارات، وأن "إخوة المنهج" أولوية في بناء المواقف وتحديد التوجهات لديه، ومن هذه التجارب الموقف من حركة حماس مثلاً عندما قررت أن تعود إلى حضن نظام بشار رسمياً.
فعلى الرغم من أن الحركة كانت تصرح طيلة عامين برغبتها في التطبيع مع دمشق، وتستجدي علناً وبشكل مهين السماح والعفو من بشار، وبالرغم من تعزيتها بالمجرم قاسم سليماني، ومديحها المتكرر لإرهابيي حزب الله وكأنهم لم يفعلوا في سوريا أي شيء، إلا أن المجلس الإسلامي والكثير من التيار المشيخي في المعارضة السورية، أصروا على التبرير للحركة بل والدفاع عنها، وصولاً لفضيحة اللقاء بها في إسطنبول بعد إعلانها العودة لدمشق، والذريعة هي مناصحتها للعودة عن هذا القرار!.
دعونا نتخيّل جهة أخرى غير "حماس" كانت تقول وتقوم بذلك، ألم يكن هؤلاء المشايخ ليهاجموها بأقسى العبارات، ويشنون ضدها حملات شعواء تتهم المسؤولين عنها بأشنع التهم؟.
بالتأكيد نعم، لكن بما أن الحركة من التيار الإسلامي فلها وضع خاص ومعاملة تمييزية، تماماً كما هو حال القبيسي التي حظيت بهذا النوع من التعامل الخاص والمميز لدى هذا التيار، إلى درجة جعل منها البعض "رمزاً إسلامياً وعلماً من أعلام الأمة في العصر الحديث"..هكذا كتب أحدهم حرفياً!.
الصدمة كانت حتمية لدى جمهور الثورة والمعارضة، الذي لديه صورة واضحة عن جماعة القبيسيات باعتبارها جماعة دعوية مؤيدة للنظام، بل والكثيرون يعتبرونها تابعة له ومن صنعه، وهذا التصور مبرر بالطبع، نظراً إلى مواقف الجماعة الصريحة والمعلنة منذ بداية الثورة على الأقل في تأييد النظام ورئيسه وميليشياته، ولذلك كان من الطبيعي أن يردوا بكل غضب على من بادر للتعزية بهذه الطريقة.
وأمام الهجوم على المعزين بادر بعضهم إلى الرد بالتأكيد على أن موقف الجماعة لا يمثل الموقف الحقيقي لرئيستها ومؤسستها، مشددين أن (الحاجة منيرة) معارضة في السر للنظام، وأن المشكلة في الجمهور الجاهل الذي لا يعرف ذلك، والقاسي الذي لا يرحم!.
لا أدري كيف كانوا يتوقعون أن يعلم السوريون بأن الجماعة المؤيدة للنظام رئيستها معارضة له في السر، طالما أن موقفها هذا سري؟!
ثم على افتراض صحة وصدق ذلك، ما هي الفضيلة أو الميزة في أن تكون معارضاً للنظام بشكل غير معلن؟.
أليس هذا هو موقف غالبية السوريين في مناطق سيطرة النظام؟!
لماذا لا نحتفي إذن بكل من يتوفى منهم ونرثيه كبطل لأنه كان معارضاً للنظام في قلبه؟!
معاذ الخطيب كتب منتقداً الغاضبين أن "موقفها بالصمت بين الوحوش رغم الضغوط الهائلة، هو أكثر شجاعة من آلاف الجبناء الذين ينهشون من لحمها بوضاعة اليوم".
أولاً أين الشجاعة في الصمت؟!
طبعا الرد معروف وهو أن النظام ضغط عليها لتصرح بتأييدها له، لكنها التزمت الصمت..
طيب أليس هذا حال الكثير من أقاربنا وأصدقائنا في مناطق سيطرة النظام ممن يرفضون المشاركة في انتخاباته ومسيراته ومهرجاناته ومناسباته حتى لا يظهروا كمؤيدين له.. ألا يفعلون ذلك وهم بلا سند يحميهم أو ظهير؟.
سيقول البعض إن الأمر مختلف، فهي شخصية عامة وهم ناس عاديون..
سأقول هذه تُحسب عليها رحمها الله، لا لها، فأن تكون شخصية عامة فهذا يرتب عليك مسؤوليات أخلاقية ودينية واجتماعية مضاعفة.
ثم إذا كان القياس على هذا النحو، ألا يعتبر السوريون المنتمون لتيارات أخرى غير إسلامية أو إسلامية، ممن عارضوا النظام ووقفوا بوجهه علناً وصراحة قبل الثورة، ودفعوا أثماناً قاسية بسبب ذلك، ألا يعتبر هؤلاء أفضل وأعظم شأناً من (الحاجة منيرة) التي صمتت.. أين الفضيلة في صمتها.. ما الفائدة التي جناها السوريون من هذا الصمت؟!
طبعاً هذا على افتراض صدق رواياتكم عن أنها معارضة في السر، أما مقتضى الحال وظاهره المعلن فإنها مؤيدة، وكان يمكنها على الأقل أن تعلن استقالتها عندما بدأت الجماعة بالتشبيح للنظام إبراء لذمتها أمام الله والشعب.
أما أن تصمت كل هذه السنوات في الوقت الذي يسحق فيه النظام السوريين ومدنهم، بينما تقيم المريدات وأتباعهن الحفلات والمهرجانات الخطابية المؤيدة له، فهذا مما لا يقبله أي منطق، فضلاً عن أن يقبله بشر فقدوا أعز ما يملكون بسبب هذا النظام المجرم، وتخلوا حتى عن إخوتهم بسبب الموقف منه.
في الواقع أنتم من أساء للراحلة منيرة القبيسي يا مشايخ العزاء والرثاء، ولو أنكم اكتفيتم بنعيها والتعزية بها سراً مثلما اكتفت هي بمعارضة النظام سراً (كما تقولون) لما كان أحد سينتبه لموتها، وإن انتبه ما كان لينشغل بالخبر وما كان سيعلّق عليه.
التعليقات (10)