لعل الأبرز في العام 2022 بالنسبة للعلاقة بين روسيا والنظام، كان إلحاقه نفسه وبحماسة بآلة الروس في غزوهم أوكرانيا، واضعاً نفسه بمثابة ذراع لفلاديمير بوتين، بينما زاد الروس من تغوّلهم في مناطق نفوذهم في سوريا، وتقدموا خطوات باتجاه تكريس استيلائهم على القرار السياسي للنظام، بحيث أصبحت البلاد أشبه بالأقاليم الأوكرانية التي ضمّتها روسيا، وانتفت لديهم الحاجة للسير بالحل السياسي كردّ على موقف الغرب من حربهم في أوكرانيا، واستبدلوه بالانخراط أكثر بالحالة الإقليمية، وتعويم مسار أستانا.
بشار وتصحيح التاريخ
غداة وصف بشار غزو الروس أوكرانيا بأنه "تصحيح للتاريخ"، وبأنه فتح الباب أمام عالم متعدد القطبية، بدت مناطق النفوذ الروسي بحالة تعبئة، وأطلق مسؤولو النظام التصريحات والمسيرات المؤيدة لروسيا، في محاكاة لزخم العنجهية الروسية في تحدي المجتمع الدولي، وانتشرت صور فلاديمير بوتين في شوارع العاصمة والمدن وضخت وسائل إعلام النظام كما إعلام الروس برامج ومقابلات لمسؤولين كبار ضد الغرب تجاوزت في حِدّتها التصريحات الروسية ذاتها.
ومن بين تلك التصريحات ما قاله بشار الجعفري نائب وزير الخارجية من أن أمن روسيا هو من أمن سوريا، وبأن "روسيا وسوريا دولتان مهمتان جداً بالمعنى الجيوبوليتيكي"، في حين قال فيصل المقداد إن لروسيا الحق روسيا في “حماية أمنها القومي ردّاً على السياسات الغربية العدوانية"، وقالت بثينة شعبان مستشارة بشار الأسد إن العالم الآن وبعد غزو روسيا لأوكرانيا يعيش "زمناً جميلاً".. يتغيّر فيه وجه العالم الذي نعرفه، وبأن سوريا باتت "أيقونة العالم في النضال ضد الرأسمالية".
ومن جانبها تجاوزت لونا الشبل مستشارة أسد الموقف الروسي حين قالت إن الروس هم من يحاصرون الغرب لأن مساحتها أكبر وليس العكس، وبررت موافقة روسيا على المفاوضات مع أوكرانيا بأن هدفها هو إنزال الأوكرانيين عن الشجرة، وهو مبرر لم يخطر على بال الروس أنفسهم.
كيف قابل الروس تذلّل النظام؟
القوة الروسية التي انتشى بها النظام مع بداية غزو أوكرانيا، انقلبت وبالاً عليه فقد تغوّل الروس في بنيته ولا سيما العسكرية أكثر من أي وقت مضى، وأصبحوا يفرضون عليه ترجمة اندفاعه بالولاء لهم على أرض الواقع، ولم يستطع مسؤولوه حتى التعبير عن ألمهم من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالنظام، بل ظهر ذلك من خلال بعض المعلّقين على قنواته التلفزيونية.
لم يحصل النظام على ثمن اندفاعه في طاعة الروس وإعلان ولائه المطلق لهم سوى على تعطيلهم عمل لجنة صياغة الدستور من خلال رفضهم انعقادها في جنيف، وحتى هذه النقطة لم تكن كرمى لعيون النظام بل خدمة لمصالحهم في مقارعة الغرب في إطار صراعهم معه، وفي حمأة هذا الصراع حشد الروس إمكاناتهم واستثماراتهم في سوريا التي تنحصر في التركيز على أثمان حمايتهم النظام ومنع سقوطه، لدعم حربهم في أوكرانيا، بوصف سوريا عمقاً إستراتيجياً لهم.
وتكاد لا تخلو خطابات المسؤولين الروس حتى في تصريحاتهم حول حربهم على أوكرانيا من الحديث عن سوريا، بوصفها جزءاً من إمبراطوريتهم الجديدة، وللقول إنهم حقّقوا فيها نجاحات كبيرة، والإيحاء بأنهم يستندون إلى نصر، وآخر تلك التصريحات ما قاله فلاديمير بوتين حول الخبرة القتالية التي حقّقتها قواته في سوريا وضرورة استخدامها في أوكرانيا متوعداً بتحقيق النصر، وهي تصريحات تثبت أن سوريا تخضع للاحتلال الروسي.
تغوّل الروس في مفاصل النظام
ومن البوابة العسكرية التي يتقن الروس اللعب خلف ساحاتها عزّز الروس سيطرتهم على النظام، إذ للمرة الأولى منذ دخولهم العسكري للبلاد يشرف قائدهم العسكري في سوريا الجنرال الكسندر تشايكو على خطة تدريبات عسكرية للفرق الأكثر فعالية في جيش النظام بينها فرقة ماهر الأسد، الذي كان يَعُدّ مهتمه تنحصر فقط بحماية النظام وهو خارج إطار الجيش وفوق قيادته والروس أيضاً.
لم يكن متوقّعاً منهم أكثر من إبقائه مُهاناً ذليلاً ليس فقط من من حيث الأمور الشكلية وبينها منع وزير دفاعه علي محمود عباس من مرافقة ضابط روسي كبير خلال عرض عسكري أقامته روسيا في طرطوس احتفاء بيوم البحرية على غرار واقعة منع بشار من مرافقة بوتين في حميميم، بينما افتتح الروس مجمعاً في مدينة تدمر يحمل اسم: مجمع "الشهيد الملازم الأول الكسندر الكسندروفيتش بروخرينكو الإداري والتربوي"، وهو الأول من نوعه، ويبعث برسالة بأن لروسيا "شهداء" في سوريا يزاحمون نصب قتلى النظام الذي كان يعطيهم قدسية لإظهار هيبة مصطنعة لمؤسسته العسكرية.
وتغوَّل الروس في معظم الوزارات أكثر وهو ما ظهر من خلال استغلالهم الاجتماع الخامس السوري- الروسي المشترك لمتابعة المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهجّرين، حيث انتشرت وفودهم برئاسة الكسندر لافرنتيف المبعوث الرئاسي ونائب رئيس القرم وناتاليا نيكونوروفا وزيرة خارجية دونيتسك الانفصاليتين في معظم الوزارات ومؤسسات النظام بينها الجهاز المركزي للرقابة المالية والجمارك العامة، وهذا الجهاز لديه جميع أرقام الواردات والنفقات والموازنة والميزانية، أي كانوا بمثابة مفتّشين على أموال النظام.
سوريا ورقة مساومة
لروسيا ما تستند إليه في إحكام إمساكها بالقرار السياسي للنظام، فلديها قوة عسكرية كبيرة وقواعد ثابتة بحرية وجوية وبرية، والأهم بالنسبة لها أن لديها رئيس نظام تابعاً بالمطلق وضع نفسه بحماسة كبيرة بهذا الموقع، ما أعطاها مساحة للمناورة على الصعيد الإقليمي بشكل خاص، مستخدمةً سوريا ورقة مساومة في علاقاتها وهو ما برز من خلال استعدادها لتقديم ما سمّتها "تنازلات" ميدانية وسياسية لتركيا في سوريا مقابل شروط تتعلق بملف أوكرانيا بحسب ما نقلته قناة الجزيرة عن مصدر تركي رسمي.
وأيضا شرعنت روسيا لإسرائيل استباحة طيرانها الحربي البلاد، بحكم التزامها بأمنها وباتفاق القدس الذي عقده في حزيران/ يونيو 2019 مستشارو الأمن القومي لكل من روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل نيكولاي باتروشيف، جون بولتون، مئير بن شبات، حيث أعلن على إثره المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أنه تم التوصل فيه إلى عدد من الاتفاقيات المهمة بشأن سوريا من دون أن يعطي تفاصيل.
تلك الشرعنة أربكت النظام وأطلق وزير خارجيته فيصل المقداد تصريحات متناقضة متخبطة: "الاحتفاظ بحق الرد، سنردّ بالزمان والمكان المناسبين، على إسرائيل ألّا تمتحن صبرنا، نحن نردّ ولكن المجتمع الدولي لا يريد أن يرى ذلك، ملمحاً إلى أحداث تقع في إسرائيل على أيدي فلسطينيين، لا نرد لأن هناك طائرات مدنية"، بينما لم يتحدث بشار الأسد بأي مناسبة عن انتهاك إسرائيل سيادة سوريا.
دور الروس في الأزمة المعيشية
لعل اللافت تحت هذا العنوان أن يبرر النظام للاحتلال الروسي عدم مساعدته في أزمته الاقتصادية الخانقة، إذ بررت لونا الشبل عدم المساعدة في مجال النفط والقمح، وقالت لقناة روسيا اليوم: "إن روسيا قدمت أقصى ما لديها، والسوريون لن يموتوا من الجوع"، ولكن الحقيقة هي أن السوريين يموتون من الجوع والروس يدركون ذلك إذ قال مبعوثهم لافرنتيف إن راتب "الوزير السوري" لا يشتري أكثر من ستين سندويشة شاورما، أما ما هي الأسباب ولماذا وصل السوريون إلى هذا الحال خلال هذا العام بشكل خاص فهو ليس فقط عدم مساعدة الروس بل وأيضاً استجرارهم ديونهم المستحقّة على النظام، وثروات أخرى بموجب عقود اقتصادية سابقة، لقاء حمايتهم له.
تستطيع روسيا لو أرادت تزويد النظام بالنفط وتجاوز العقوبات الغربية حيث لم يسبق للغرب أن منع ناقلة نفط روسية أو استهدفها، ولكنها في حرب مصيرية في أوكرانيا وتعمل على حشد جميع الطاقات التي بمتناول يديها لزجها في معركتها ودعم اقتصادها المنهك، وتتنصّل روسيا من المسؤولية وتلقي بتبعاتها على الولايات المتحدة وتقول على لسان نائب مندوبها لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي إن أزمة الغذاء والوقود في سوريا تتحمل مسؤوليتها الولايات المتحدة نظرا للعقوبات التي فرضتها واشنطن واحتلالها شمال شرق البلاد وسرقة النفط.
وبدوره النظام تبع روسيا وأمسك بتلك التهمة وروّج لها لتبرير عجزه عن حل الأزمة المتفاقمة، وبدأ يتحدث عن قيمة النفط الذي يقول إن الولايات المتحدة تسرقه من سوريا متنصلاً من مسؤولياته في هدر موارد البلاد ناقلاً أزمته الاقتصادية إلى كاهل الأهالي الذين يعيشون أسوأ أيام حياتهم، في حين أن النفط لم يدخل ميزانية البلاد طيلة العقود الماضية، وأيضاً القطن بوصفه محصولاً إستراتيجياً، وبالنسبة للعقوبات الغربية وبينها قانون قيصر الذي تسبّب به النظام فإنها تستثني الغذاء والدواء.
انتصار الروس ونظرية الشجرة
انتصار الروس في غزوهم لأوكرانيا كان يعده بشار الأسد انتصاراً لنظامه، وقفزاً إلى الأمام، وذهب في التفلسف الفارغ إلى حد الإيحاء بأن الغرب انهار أمام الروس، وهو لا يعرف كيف يعيد علاقاته مع النظام، واستنتج أن الغرب في موقف صعب أمام صمود سوريا فهو بحسب تعبيره صعد إلى الشجرة وذهب عالياً ولا يعرف كيف ينزل عن هذه الشجرة، ولكن يبدو أن من صعد الشجرة من خلال التسلق والوصول للذل هو ذاته بشار الأسد.
رهان النظام على انتصار الروس في أوكرانيا، والسير خلفهم في توقعاتهم بأن الحرب ستنتهي خلال شهرين بنصر يجني ثماره بإبعاد الغرب عن ملفات القضية السورية، وولادة عالم متعدد الأقطاب كان مقامرة مكلفة على الأهالي في مناطق سيطرته التي تعد مناطق نفوذ روسية بفعل استنزاف ما تبقى من موارد، وأضعفته أكثر، إذ ما زالت الحرب مستمرة ولا نهاية معروفة لها بعد مرور نحو عشرة أشهر عليها، ليست قضية سورية بقدر ما هي متعلقة بطموحات بوتين الذي يستخدم جميع أوراقه وبينها سوريا لزجها في معركته.
وأيضا ألحق رهان بشار الأسد ضرراً في مجمل "الوطن السوري"، إذ بنى على موقف الروس من اللجنة الدستورية تعنّتاً أكثر حدّة في رفض الحل السياسي، المبني على القرار 2254 والذي من الصعب أن يكون مسار أستانا الذي هو رهان آخر للنظام، بديلاً عن هذا القرار، المأمول منه إنهاء أكثر من عقد من الصراع، إذ إنه قرار دولي يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي، ويربط المجتمع الدولي بينه وبين دعم إعادة الإعمار وتقديم المساعدات، ما يعني أن النظام مُصرّ على أن يبقى هو المشكلة والأزمة، وإبقاء البلاد مقسمة تخضع لنفوذ قوى إقليمية ودولية، ولا يرى النظام مشكلة في أن يواصل دوره كزعيم ميليشيا محلي في إحدى مناطق النفوذ تحت الحماية الروسية كقوة احتلال.
التعليقات (0)