"رصاصة أخيرة في حلم مزعج" حكايات أعطبتها الحرب

"رصاصة أخيرة في حلم مزعج" حكايات أعطبتها الحرب

إنكار الواقع المرّ بكليّته، خَلْقُ عالمٍ موازٍ على أنقاض هذا العالم الذي نخرته الحروب، عيش اليأس والبؤس كما يليق بكاتب قادم من عمق التاريخ... هكذا بنى الكاتب والشاعر عبد السلام الشبلي منظومته القصصية المعنونة بـ "رصاصة أخيرة في حلم مزعج"، والفائزة بجائزة "سعاد الصباح" عن فئة القصة القصيرة؛ لتكون رصاصة أخيرة منطلقة بقوة السرد المعتمِد على البساطة المفرطة والشعرية الرقيقة، متكئاً على مخزون شعري كافٍ لإثارة مشاعر المتلقي.

يراوح "الشبلي" في مجموعته بين خطي سير، الأول يكاد يصنّف على أنه "سرد" والآخر يتجه نحو النص النثري المفتوح، وبذلك يكون قد أخذ مساراً خاصاً به في كتابة القصة، مبتعداً عن النمط الكلاسيكي. كما إنه انحاز في جوّ مجموعته العام نحو الانتصار للحالة الإنسانية، من خلال تطرقه بشكل غير مباشر إلى بيئته السورية، بما فيها من حروب ودمار، فتراه منذ الإهداء الذي أرسله، "إلى الرصاصات التي أخطأت أجساد الأبرياء"، إلى تطرقه للموت بشكله غير الطبيعي، القتل، إلى البيوت المهدمة والخراب الذي أصاب البلاد، مظهراً نزعة إنسانية ونزوعاً للمظلوم، لكن بتوليفة عجيبة تتضمن الرمزية.

يبدأ "الشبلي" مجموعته بقصة "كائن لا تُحتمل تعاسته"، والتي يتضح من خلالها، استجلاب الكاتب ثيمة للروائي الشهير "ميلان كونديرا" لتكون عتبة إلى نصه الذي يستعرض من خلاله كماً معرفياً كبيراً، بالإضافة إلى لعبه على أوتار حياة الكاتب، حيث يكاد يحكي قصته هو نفسه من خلال هذا النص.. وهو الحال مع معظم النصوص، هكذا تتبين الرؤية السطحية أو الخطوط العريضة للنصوص، أما إن حاولنا التغلغل في أعماقها، ونبش ما وراء السطور، سنجد أولاً، اشتغال الكاتب على صنع مقاربة بين واقعنا السوري خاصة، وبين واقعٍ هو من تشييد الكاتب، واقعٌ يصور -بداية- اليأس والتعاسة التي يعيشها الإنسان، ثم يتنقل بين دهاليز جانبية تؤدي معظمها إلى الحالة نفسها، حالة يكون أبطالها كتَاباً مثل "ممدوح عدوان"، "جورج أورويل"، "أرنست همنغواي"... وآخرين.

وقد احتل التنوع في الطرح مساحة كبيرة من حكايات الكاتب، فينطلق حيناً من نفسه، وأحياناً كثيرة من الآخر، الذي يكون سيجارة تارة، وسقفاً تارة أخرى، وقد يكون طفلاً أو شاباً أو... هذا التنوع الذي جعل من حالة استجلاب الواقع وطرحه في قصة أمراً في غاية الإبداع، ويظهر جلياً في قصة "حكايات أعطبتها الحرب"، حيث تحولت حكايا الطفولة التي خبرناها في صغرنا إلى حكايات من وحي ما نعيشه اليوم.

وفي الشأن ذاته، حاول الشبلي مثله مثل أبناء الحرب، تسطيح "الموت"، ذاك الحدث الذي يزرع الرعب في قلب الإنسان ويطارده في كل تفاصيل حياته، والسؤال الذي ينمو بكثرة في أدمغة وعلى ألسنة معظم الناس، فقام "الشبلي" بترويض هذا الحدث وطرحه -كموضوع يكاد يكون سخيفاً- في بعض قصصه؛ ففي قصة "نزاع" على سبيل المثال، صوّر الموت كرحلة عادية، لا بد من اجتيازها للوصول إلى الحياة الأخرى، وبكل بساطة صوّر الموتى "الأطفال" كركاب حافلة ينزلون في السماء الرابعة وهم في طريقهم إلى الفردوس... هذا التسخيف أو التسطيح الذي افتعله الكاتب، وربما لم يفتعله، هو تعبير واضح عن تعريف الموت بالنسبة لأبناء الحرب، أو الذين عاشوا بيئة نزاع. كما يظهر هذا التصور جلياً أيضاً في قصته "أحياءٌ في المقبرة"، وفي بعض القصص الأخرى على الهامش.

وما لا بد من الإشارة إليه، اشتغال الكاتب على أنسنة الأشياء، فقد عمل في أكثر من موضع على هذا الاشتغال، والذي يُعتبر أمراً محبباً في القصة، بالطبع إن كان الاشتغال ذكياً كما في مجموعة "الشبلي"، فها هو يبث الروح في سيجارة ثم يميتها، وفي ذخيرة السلاح، وهنا اشتغال لغوي ذكي آخر، فعدا عن كونه أحيا الرصاصة أو الذخيرة؛ فلفظة ذخيرة حية في الأساس مستخدمة للذخيرة القاتلة أو الحقيقية، كما إنه أحيا الجدار، والسقف...

وفي نهاية الجزء الأول، أو القصص القصيرة، ينهي الكاتب مجموعته بـ "رسالة إلى بابا نويل" ليعيدنا إلى المأساة، لكن بلسان الطفل الذي في داخله هذه المرة. ومنها نستطيع تغليف المجموعة في جزئها الأول بالسوداوية التي خلقتها الحرب في نفس الكاتب، أو التي استعارها الكاتب من واقعه، أما في الجزء الثاني من المجموعة والذي جاء على شكل ومضات أو ما تسمى بــ "ق ق ج"، قصص قصيرة جداً، استغرق الكاتب في الشعرية ليخلق صوراً تتميز بالعبثية المفرطة، العبثية التي ما إن تحاول إمساك خيط من خيوطها، حتى تفلت متطايرة كأشلاء غيمة..

وكما في الجزء الأول من الكتاب، كذلك صبغت الحرب، الموت، الحياة الأخرى، معظم تلك الومضات، التي ما إن اختار لها الكاتب هذه الصبغة حتى أصبحت "صعقات كهربائية". وكذلك لم تأخذ شكل القصة القصيرة جداً الكلاسيكية، فكما أسلفنا، انحازت نحو الشعرية إلى حد الإفراط، فجاءت معظمها على هيئة صور، أحياناً بلا نهاية، وأحياناً بلا بداية أو نهاية أيضاً، صور ومشاهد لمجرد المشاهدة فقط، أو لمجرد الصعقة كما قلنا سابقاً.

"اعتادت قطف وردة ووضعها فوق قبره، إلى أن وجدوها ذابلة قربه يوماً".
"كانا في طريقهما إلى الفناء... أمسك يدها وتطايرا كأشلاء غيمة، ماتا، وعندئذٍ بدأت حياتهما الأخرى".

عن الكتاب والكاتب:
"رصاصة أخيرة في حلم مزعج": مجموعة قصصية حاصلة على جائزة الدكتورة "سعاد الصباح" وصادرة مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر "تركيا". جاءت في 98 صفحة من القطع المتوسط.
عبد السلام الشبلي:
كاتب وصحفي سوري من مواليد 1990، يعمل صحفياً في مجموعة MBC .
صدرت له رواية مطبوعة (هوامش الحب والحرب)، وثلاث مجموعات شعرية: أنوثة وطن. قصائد كُتبت لها. لا نص يجب أن يكتمل. 

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات