عندما تصبح السياسة مستديرة

عندما تصبح السياسة مستديرة

أنظار العالم كله تتجّه نحو المستديرة في ملاعب قطر ضمن مباريات الدور النهائي من بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022.

حضور سياسي بكامل أبعاده يتصدر المشهد، وعداء تاريخي ديني يلقي بظلاله على مجريات البطولة من خلال رشق التهم ومحاولة تشويه صورة المستضيف، ومشاهير تستبق إلى الأماكن كلها لتقول للشاشات نحن هنا؛ وكأنّ المشهد يقول: أصبح كل شيء يدور في فلك كل شيء، وكل الطرق أصبحت الآن تؤدي إلى قطر.

على تلك البقعة التي تنغرس في خاصرة الخليج العربي يجتمع العالم ليشهد أكبر حدث كروي، ويستمتع بهذه التجربة بنسختها العربية والإسلامية؛ لكنّ ما يبدو للقارئ المتمعّن بين السطور يشي بأنّ كل صوت هناك يريد أن يكون أعلى من الآخر، وربما يريد أن يسكت الآخر.

افتتاح يبعث الكثير من الرسائل الواضحة، والمكتوبة بذكاء يشهد به الجميع لقطر؛ آية قرآنية تتحدث في بدايتها عن زوجية الجنس البشري لتواجه تيار المثليّة الذي يُعتبر أحد أهم وأخطر الأسلحة الأخلاقية الجديدة، وحديث - في ذات الآية - عن طبيعة وجود الاختلاف البشري الذي يقصد منه التعارف كجزء لا يتجزأ من الإنسانية والوجود البشري، ثم ختام تحدد فيه الآية مقياس التفاضل بين الناس وفق ميزان التقوى وليس الأقوى، وكل هذا في صورة حوارية رائعة بين شخصيتين لم يتم اختيارهما بشكل عبثي:

الشاب الملهم غانم المفتاح الذي اختزل عظمة الإسلام بجسده الصغير ليؤكد على مفهوم أنّ الصور والأجساد لا تحدد هوية الإنسان ولا تحدد قيمته أو قدرته على التأثير، ويحاوره الممثل العالمي مورغان فريمان صاحب البشرة السوداء التي تصيب العنصرية المقيتة في مقتل. 

وكل ذلك جاء في هيئة جلسة على الأرض لتعيد للإنسان ارتباطه الحقيقي بالأصل والمنشأ.

كل تلك الرسائل لم تكن أخلاقية فقط؛ بل كانت سياسية إلى حدٍّ بعيد للغاية، وردّاً ذكيّاً على كَمِّ الاتهامات التي تم توجيهها لحكومة قطر بغرض إفشال المونديال فيها؛ من خلال اتهامها بسوء معاملة العمال وإهمال أوضاعهم.

الرد على آلة الإعلام الرسمي في الغرب فيما يتعلق بقضية الإسلاموفوبيا

في عصر الثورة التكنولوجية فقد الإعلام الرسمي سطوته أو فقد جُلَّهَا؛ أصبح الإعلام للجميع وفي متناول اليد، وهذا ما أحسنت قطر استغلاله جيداً حين نشرت في شوارعها الأحاديث النبوية التي تُبيِّن أخلاقيات الدين الإسلامي، وتترك للعقل أن يحكم دون تدخل أو ضغط إلا بإظهار الحقيقة الصرفة، واجتهدت قطر أكثر حين قامت - بالتزامن مع موعد المونديال – بجمع واستدعاء عدة دعاة أبرزهم الداعية العالمي ( ذاكر نايك ) الذي يتبع منهج الحجة والإقناع العقلي.

وقد كانت النتائج كالمتوقع؛ بدأ يزداد عدد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي في رحلتهم لمونديال قطر 2022 خلال أول أسبوع من وصولهم، وهؤلاء سيعودون إلى بلدانهم بقصص حقيقية يحكونها عن الدين الإسلامي، وصورة غير مشوهة يرسمون من خلالها ملامح وجهه السمح.

قطر وفّرت للجماهير كل ما يتوافق مع التقاليد والأعراف، وتركت للإنسان حرية اتخاذ القرار حول ما يريد اعتناقه من أفكار عن العرب وعاداتهم ونمط عيشهم، وعن الإسلام كدين يخاطب العقل ولا يعاند المنطق.

والدون كيشوت الغربي ما يزال يحارب طواحين الوهم الذي نسجه وصدَّره قديماً عن همجية وتخلف سكان دول العالم الثالث كما يحلو للجميع تسميتهم. 

لقاءات جديدة تطوي صفحات قديمة

شاهد وعلَّق العالم كله على الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام عن الحضور السياسي رفيع المستوى لتنطلق القراءات والتحليلات.

حقبة جديدة من العلاقات التركية المصرية جاءت على هيئة مصافحة فكانت الصورة الأبرز خلال اليوم الأول من بطولة كأس العالم 2022، وكانت حديث الإعلام، وشغل المحللين السياسيين.

عناق سعودي قطري يقول للعالم: نحن اليوم أقوى، وصوت الخليج بات مسموعاً، وبيت الشَّعر أثبت قدرته على استيعاب العالم الجديد الذي يؤمن بأن أخذ الفرصة من حق الجميع، والسُّلطة اليوم هي سُلطة الإنجاز.

محاولات الغرب لفرض الهوية التي تتناسب مع رغباتهم على العالم باءت بالفشل، وظهرت أمام العالم عارية مما كانت تدَّعيه، فانقلب السحر على الساحر الذي ألقى كل حباله، وبقي له حبل رفيع يتمسك به؛ يتمثل بمحاولة معرفة سبب رفض منع تصاريح لبعض من أرادوا حضور المباريات.

العالم الغربي اليوم يعيش أزمة مركَّبة أضاعت هيبته أمام عجزه الواضح في مواجهة آلة روسيا العسكرية في أوكرانيا، وأصابته بخيبة أمل كبيرة حين بدأت أحداث مونديال قطر 2022 بتمزيق الصورة النمطية التي عمل على رسمها طويلاً عن العرب والمسلمين. 

ثمانية وعشرون يوماً تستدير فيها السياسة في محاولة لإعادة ترتيب الأوراق؛ لم تعد أشكال الصراع تقليديةً في العالم، والمواجهة باتت مفتوحةً دائماً، والأساليب جميعها أصبحت مسموحةً، وهي رغم كل ذلك ما زالت تبررها الغاية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات