دجل الأحزاب القومية وسحر كرة القدم

دجل الأحزاب القومية وسحر كرة القدم

لعلنا لا نجانب الصواب إذا ادّعينا أن الأحزاب القومية منذ نشأتها كانت تعاني وما زالت الفجوة بين خطابها النظري وبين تطبيق هذه المنطلقات على الأرض، فلطالما كانت النظريات تثلج الصدر وتعبّر عن نبض الشارع القومي، لكن هذه الأحزاب خاصة الأحزاب التي استطاعت الوصول إلى السلطة لم تأل جهداً في تقويض كل ما من شأنه أن يقرّب المسافات بين أجزاء الوطن الواحد وأقطاره، فبقيت ممارسات هذه الأحزاب على الأرض تصب في تكريس القطرية والانغلاق على حدود الوطنية، وجعلها واقعاً مقدّساً يُعدّ المساس به جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لسنوات، من مثل إضعاف الشعور الوطني، وسواها من تهم لا يستوعبها العقل المنفتح.

لكنّ هذه السلطات الحاكمة تحت شعارات قومية، والتي عملت على تكريس القطرية، فشلت فشلاً ذريعاً حتى في إنضاج هذه الفكرة أي "الوطنية"، بدليل حالة الانفجار المجتمعي الذي أعقب ثورات الربيع العربي، وتحديداً في سورية حيث كان هذا الانفجار أكثر وضوحاً، فالسلطات الحاكمة لم تفشل في تحقيق الشعارات القومية فحسب، بل هي التي أجهضت مفهوم الوطنية أيضاً.

هذا عن الأحزاب القومية التي وصلت إلى السلطة، فما بالك عن باقي السلطات الملكية والأميرية الوراثية؟ 

فهذه السلطات الوراثية من باب أولى أن تكون سياستها باتجاه تكريس القطرية والانغلاق عليها وهي هنا "الملكيّة" أي المملكة أو الإمارة مقابل الجمهورية في الأقطار التي يحكمها النظام الجمهوري.

ولعلنا إن أردنا أن نضرب مثالاً عن تلك الأحزاب القوميّة، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي أبرز هذه الأحزاب التي برز فيها الفارق بين النظرية والتطبيق، فقد حكم هذا الحزب بلدين عربيين سوريا والعراق، وكان شعاره المعلن في أدبياته "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، لكن هذا الحزب وعلى مدى عقود من حكمه لم يظهر على العلن أنه سعى لتطبيق هذا الشعار، بل إنه عجز عن توحيد البلدين اللذين يحكمهما وهما سوريا والعراق، فقد كان رئيسا هذين القطرين حافظ الأسد وصدام حسين على خلاف شديد وصل إلى درجة القطيعة بين الشعبين الشقيقين السوري والعراقي بسبب نزاعهما المزمن، إلى درجة أن الجواز السوري الذي يحصل عليه المواطن السوري مكتوب عليه العبارة التالية "يُسمَح السفر به إلى كل دول العالم عدا إسرائيل والعراق"، والمضحك المبكي أن تجمع سلطة لحزب قومي تدّعي أن شعارها الوحدة العربية بين بلدٍ عربي وبين الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين، مما يعطي برهاناً ساطعاً عن سياسة هذه الأحزاب عموماً وحزب البعث في سوريا بشكل خاص فيما يخص الخلل بين الخطاب النظري والتطبيق العملي للمبادئ والشعارات.

ولعلنا لا نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا ما توقّعنا ماهية هذه الأحزاب والأشياء لا تفارق ماهيتها كما يقال، وهي أن هذه الأحزاب هدفها الأول والأخير هو السلطة، والسلطة فقط، وما الشعارات الرنانة والبيانات الحماسية والمنطلقات النظرية إلا لتخدير الجماهير وتصدير الوهم إليها، وبالتالي تغطي على هدفها الرئيسي وهو السلطة والبقاء فيها والاستئثار بمميزاتها من الجاه والمال.

لقد عملت السلطات الحاكمة في البلاد العربية سواء كانت الملكية أو الجمهورية على تكريس القطرية والانغلاق على حدود سايكس بيكو من خلال ممارساتها المخالفة لكل شعاراتها المعلنة، وما ذاك إلا خدمة لأولياء أمورهم من القوى العظمى التي لولاها لما بقي أحدهم على كرسيّه حتى يموت.

ورغم كل هذه السياسات الممارسة على الشعوب العربية لتكريس انفصالها وانعزالها في حدود أوطانها التي رسم حدودها الاستعمار، فإن هذه الشعوب لم توفّر فرصة أو سانحة إلا اغتنمتها لتقول لحكامها ولكل العالم إننا أمة واحدة.

ولعل وقوف هذه الشعوب مع الفرق العربية في مونديال قطر لكأس العالم، ومساندتها والفرح لانتصارها والحزن لخسارتها ما يثبت أن هذه الشعوب على اختلافها وعلى الرغم من كل ما مورس عليها حتى تنغلق على هويتها الوطنية، أمة واحدة يجمعها أكثر بكثير مما يفرقها.

إن متابعة الشعوب العربية وجلوسها خلف الشاشات تتابع مباريات الفرق العربية بكل حماس وحب ودعاء يصل عند البعض إلى البكاء، ثم خروجها إلى الشوارع احتفاء بفوز هذا الفريق أو ذاك، وآخرها الفريق المغربي على نظيره البرتغالي وصعوده إلى الدور نصف النهائي، ما يثبت حقاً أننا أمة واحدة رغماً عن كل حكامنا وما يريدون هم ومشغلوهم.

ولعلّ هذا ما يدعو إلى التفاؤل والأمل في المستقبل، وهو أن هذه الشعوب جاهزة حقاً لتكون تحت سلطة واحدة من المحيط إلى الخليج فيما لو ساعدت الظروف وتغيّر الحال، وحدث أمر خارق للعادة غيّر كل الموازين، وما ذاك على الله بعزيز.

والعجيب المضحك أخيراً وليس آخراً أن تنجح لعبة شعبية هي كرة القدم في جمع الشعوب العربية وتوحيدها بهذه الصورة الجميلة، وتعجز عن فعل ذلك أحزاب وحركات عبر عقود طويلة من الزمن، فما السبب يا تُرى؟!

ولا أعتقد أن السبب هو الشعوب العربية، فما حدث يثبت براءتها من هذه التهمة، وإنما السبب هي الأحزاب القومية التي نادت بشيء وطبقاً شيئاً آخر، أضف إلى ذلك الظروف الموضوعية التي مرت بها الأمة خلال أكثر من مئة سنة مرت على ظهور التيار القومي، وخروج العرب عن سلطة الحكم العثماني.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات