الهيلعي ولوثة الدبكة في الصف العامر

الهيلعي ولوثة الدبكة في الصف العامر

لا ريب أنّ الأعمال الروائية التي صبّت اهتمامها على المأساة السورية كثيرة، لكنها أيضاً تختلف في التفاصيل وإن اتفقت في الخطوط العريضة للمحنة والتغريبة السورية.

من هذا الباب يمكننا الدخول إلى رواية "الهيلعي" للكاتب السوري عبد القادر الجاسم الصادرة عن دار نرد للطباعة والنشر عام 2022م؛ إذ تناول الكاتب جانباً من هذه المأساة ربما القلة من الكتاب انتبه إليه، وهو ما يسمى "الجيش السوري"، أي معالجة أحداث الثورة من داخل مؤسسة الجيش.

تبدأ أحداث الرواية في مكان جبلي في لبنان على الحدود السورية حيث تمركزت قطعة عسكرية سورية فيه، وهذه القطعة ككل فرق الجيش وكتائبه فيها من كل المناطق، فهناك الحلبي والدمشقي واللاذقاني...إلخ، وهناك المسلم والمسيحي والعلوي والدرزي والكردي وسواهم من مكوّنات الشعب السوري.

بطل الرواية الذي تدور أحداثها في فلكه الملازم المجنّد عمر، شاب يحمل شهادة جامعية، وهو مسلم سني من حلب، وحوله شخصيّات رئيسية وثانوية، كلها تعمل لتدعيم العمل الروائي واكتماله شكلاً ومضموناً، أهمّها سعد الدين المجنّد الذي ينتمي إلى نفس ما ينتمي إليه عمر أي المحافظة حلب، والعقيدة أي الإسلام السنّي.

سعد الدين هذا هو نفسه "الهيلعي"، وهو اللقب الذي أطلقه عمر عليه، وتُعدُّ هذه الشخصية من حيث الأهمية الشخصية الرئيسية الثانية بعد عمر؛ كونها موجودة من أول العمل الروائي إلى آخره.

 والهيلعي وصف يُستخدَم في بعض مناطق سورية، ويدلّ على المقدام أو المبادر ومن يبحث عن الظهور، ولذلك يكون رأس الدبكة هيلعيّاً، ويُقال عنه راعي الأول أو راعي الأولة، أو طارود الدبكة أو النّخّيخ أو اللويح، وذلك تبعاً للهجات المناطق في سورية.

- جيش الوطن أم جيش الطائفة:

يعالج الكاتب في روايته كثيراً من قضايا ما يسمى "الجيش السوري"، وعلى رأسها سيطرة الطائفة العلوية عليه من حيث كم الضباط القادة مقارنة مع غيرهم من المكوّنات الأخرى، وهذا تبعاً لسياسة رئيس الدولة والقائد العام للجيش والقوات المسلحة حافظ الأسد ابن هذه الطائفة:

"نعم.. نعم.. هذه طريقة حياة وقدر موجّه يا عمر، والأمر يتعلق بتاريخ مؤسسة الجيش في سوريا، أتعلم؟ سبعون بالمئة أو أكثر من الشبان العلويين يلتحقون بالجيش، قلة منهم من يختار غير الجندية عملاً له في حياته، بل حتى الفتيات تراهنّ متطوّعاتٍ في الجيش، هذا المجتمع معسكرٌ كبير."

إنّ سيطرة رئيس الدولة حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، ومن ورائهما الطائفة العلوية على الجيش بشكل مطلق نتج عنه نتائج كارثية على المجتمع السوري ونسيجه أولاً ثم بعد ذلك على مؤسسات الدولة السورية.

إنّ صفة الألوهية التي سعى النظام إلى إضفائها على شخص الرئيس جعلت منه إلهاً يُعبد وإن بشكل مجازي إن صحّ التعبير، فالمساس حتى بصورته يُعد كفراً في نظر النظام وأجهزته القمعية.

إن صورة له رسمها جنديّ موهوب على اللوح قبل دخول الضابط المحاضر استدعت استنفار قيادة اللواء كاملة؛ لأن هذا الضابط ولا أي أحد من صف الضباط تجرّأ على مسح الصورة المرسومة على اللوح بالطباشير ليستطيع الضابط المحاضر أن يعطي درسه، فكانت حادثة هزّت أركان اللواء ضباطاً وصفّ ضباط ومجنّدين: 

"تابعْ الدرس شفهياً سيادة الرائد، هذه اللوحة رسمت لتبقى.. لن أسمح بوضع نقطة على السبورة، سأتصل بضابط أمن القطعة لأرى ماذا يشير علينا.."

- الخدمة الإلزامية وسياسة إذلال الجنود:

إن سياسة القمع والإذلال المتّبعة في الحياة المدنية للسوريين تلاحقهم حتى في خدمة العلم، وكأن هؤلاء الشباب لم يلتحقوا بالخدمة الإلزامية للدفاع عن الوطن وحماية حدوده، بل لإهانتهم وإشعارهم بأنهم عبيد ليس إلا، حتى إذا ما أنهوا خدمتهم وانطلقوا إلى الحياة العملية في مجتمعاتهم تبقى لوثة العبودية تلاحقهم مدى الحياة:

"سيدي، كم قلت للرقيب حسام أن يعامل هؤلاء الجنود بإنسانية، كم كررتُ أنهم بشر، ويجب أن نشعرهم بذلك، وها هو اليوم يرغمهم على الغداء حفاة عراةً فوق الثلج، وفي هذا الجو العاصف، بالله عليك سيدي، تعال وانظرْ."

- فساد المؤسسة العسكرية:

ولعله من الطبيعي جداً أن يكون الفساد والإفساد المستشري في البلاد منذ أن اعتلى حافظ الأسد السلطة حتى وصل إلى كل مفاصل الدولة قد وصل إلى مؤسسة الجيش، فقد صار من المتعارف عليه وتم تداوله بشكل طبيعي هو عملية التفييش، وهو أن يعمد الضابط القائد لأي قطعة إلى تسريب عسكري أو أكثر حسب حجم القطعة وحسب الدعم الذي يحظى به هذا الضابط .. مقابل مبلغ مادي يُتّفق عليه بين الطرفين، وعادة ما يلجأ لذلك أبناء العائلات الميسورة أو العاملين بمصالح تدر عليهم مبلغاً جيداً يغطي أجرة التفييش ومصروف العائلة الشهري: 

"كل هذا بخلاف عسكريين لا يحضران إلا بداية الشهر لتأدية راتب شهري لقاء التفييش يفوق ما يتقاضاه من مرتّب رسمي"

- انحياز الجيش الطائفي للسلطة ضد الشعب:

إنّ جيشاً هذه صفاته وهذا تكوينه، فلن يكون من المستغرب أن يصطفّ إلى جانب الجلاد في وجه الشعب الثائر، بل يكون أداته في قمعه قتلاً وتشريداً وتدميراً، خلا بعض الضباط والعناصر الذين ما زالوا يحملون بين جوانحهم حسّاً إنسانيّاً جعلهم يأنفون أن يكونوا قتلة ومجرمين، فانشقوا وانضموا لصفوف الشعب بعد أن عانوا في قطعاتهم رهاب الاعتقال لأي سبب مهما كان تافهاً:

"في مرحلة لاحقة أصبحت متابعة الجزيرة وأورينت والعربية جناية يحال مرتكبها إلى التحقيق."

لقد وصلت الريبة والخوف عند الضباط المنتمين إلى الطائفة العلوية من الآخرين وعلى رأسهم السنّة إلى أن دعتهم لسحب السلاح من يد هؤلاء خوفاً من انشقاقهم أو الغدر بهم وقتلهم، فجدار الثقة الهش بالأصل بين الطرفين قد تم هدمه من أساسه بفعل مجريات الثورة وتطوراتها:

"سيدي هل من المعقول أن تتركونا دون سلاح، هكذا سيذبحنا الإرهابيون دون أن يعرف بنا أحد"

ولا شكّ أن الثورة قد شطرت الشعب السوري عمودياً، فانقسم بين مؤيّد إلى درجة من التطرّف لا يمكن تصورها وبين معارض ثائر هدفه الحرية والكرامة، وبين هذا وذاك حلّت هوّة سحيقة لا يمكن ردمها مهما جهدنا لذلك: 

"يا إلهي ما هي جينات هؤلاء الناس وما هو تركيبهم الكيميائي، ما هذه البنى الاجتماعية والتركيبة الذهنية التي جعلتهم مؤيدين لنظام القمع والعصابة المتسلطة على رقاب الناس، غير مكترثين بالأوضاع الكارثية التي يعيشها إخوة لهم سوريون في مدنٍ وبلدات أخرى محاصرين بالدبابات والمدافع"

- لوثة الدبكة في الصف العامر ( الهيلعيّة):

سعد الدين "الهيلعي" يمثّل شريحة من هؤلاء معدومي الضمير، فهو العسكري الشبيح الموالي للعظم والواشي بزملائه حتى أودى ببعضهم إلى المعتقل، فعانى الواحد منهم الأمرين مما لاقاه هناك، حيث تنعدم الشروط الإنسانية بمجرد ولوجك داخل جدران السجن: 

"ماذا أقول لك سيدي، جوع، تعذيب، حرق أعصاب، إهانة، ذل، دواليب، كل ما يخطر بالبال، لكن الحق كله على الزيتون، لقد أثر فينا كثيراً! قالها وهو يضحك.

- زيتون! لم أفهم! قال عمر.

- نعم الزيتون، لقد كان الواحد منا ينال زيتونة واحدة أو زيتونتين في اليوم طعاماً له."

إن سعد الدين هذا نفسه المتطرف في تأييده للنظام، وجد طريقه بين المتشددين من جماعة جبهة النصرة، فانتسب إليهم وعمل معهم وتسمى باسم من أسمائهم "أبو مسلم الحلبي".

إن هذه الشخصية العصية على التفسير والفهم تعكس نموذجاً استشرى في المجتمع السوري منذ عقود، فتجد أن الواحد من هؤلاء يتقن الدبكة في الصف العامر أيّما إتقان:     

"استدار الرجل الجالس في هذه اللحظة، ونظر متأملاً عمر، رفع عمر حاجبيه وقد صعق من الدهشة وهو يعاين سعد الدين"

هذه الشريحة من المجتمع لا يردعها رادع أخلاقي أو ديني، فهي تبرر كل تصرّفاتها وتجعل منها عين الصواب، فبالأمس البعيد كان في صف النظام، والبارحة انتسب للنصرة؛ لأنه وجد مصلحته معهم، واليوم بين الدواعش أميراً للحسبة:

"لكن قل لي كيف أتيت إلى هنا، كان وضعك جيداً في النصرة، ما الذي حدث فتترك الجبهة .. أذكر أنك قلت لي إنها الفئة الغالبة."

وها هو نفسه سعد الدين "الهيلعي" بعد انتهاء مشروع تنظيم الدولة والقضاء عليه، يعيش في تركيا كرجل أعمال يمتلك مدرسة خاصة به، يمارس حياته بشكل طبيعي، فكيف يمكن لهؤلاء تغيير جلدهم كلما دعت الحاجة:

 "ما الذي يضحكك الآن؟ حقيقة تذكرت أخي وشيخ وأبا مسلم و..."

- الطبع يغلب التطبّع:

إن سنين القمع الطويلة التي عاشها الشعب السوري قد غرستْ في نفس كثيرٍ من أبنائه الألفة مع حياة العبودية حتى صارت طبعاً من طباعه، فتجد الغالبية منهم وقفوا ضد الثورة من هذا المنطلق مع علمهم اليقين بما يرتكبه النظام من جرائم تقشعر لها الأبدان:

"يا بنيّ لقد وُلِد هؤلاء عبيداً ولم يعرفوا غير العبودية، فهي اليابسة الصلبة التي يستندون إليها، ليس بوسعهم تقبّل فكرة الحرية؛ لأنها البحر الذي يخشون الغرق فيه .. قيد العبودية الفولاذي الذي ألفوه لا ينقطع بسهولة يا بني."

- اليسار العربي وانتكاسة خطابه الثوري:

ولعله من الطبيعي أن تجد سواد الشعب السوري قد وقف هذا الموقف السلبي من الثورة لاعتبارات كثيرة أبرزها الجهل، ولكن من غير المقبول أن تجد من تبنوا عبر عقود كثيرة شعارات الحرية والديمقراطية ينقلبون فجأة على الشعوب التي رفعت صوتها في وجه الاستبداد والظلم، فوقفوا إلى جانب الجلاد ضد الضحية:

"غريب أمر اليسار العربي؛ لقد صدّعوا رؤوسنا بالثورة والحرية والإقطاع والرأسمالية، لكنهم مع اندلاع ثورة الحرية والكرامة في سورية، أداروا لنا ظهورهم، وعدّونا متآمرين على نظام المقاومة والممانعة."

- السوري الانتهازي في دول اللجوء:

إن التشظي في بنية المجتمع السوري والذي وصل إليه عبر عقود من سياسة التجهيل والإذعان جعلت من بعض أبناء هذا المجتمع انتهازياً، ليس لديه مشكلة أن يبتزّ أقرب المقربين إليه، وما يحدث في بلاد الشتات بين بعض هؤلاء السوريين يدعو إلى الشفقة: 

"ألم تر بعينك؟ .. هؤلاء الذين قمتم لأجلهم بالثورة، قرّ عيناً وانبسط نفساً"

- الخاتمة:

أخيراً إن رواية "الهيلعي" للكاتب السوري عبد القادر الجاسم تُعدُّ من الروايات السورية الرائدة في عكس المأساة السورية، وإن تميّزت بشيء عن غيرها، فذلك لأنها دخلت إلى ما تسمى بـ"مؤسسة الجيش السوري" وسبرت أغوار فساده وطائفيّته مما جعله أقرب إلى ميليشيا منه إلى جيش منظّم.

ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت إنّ الكاتب استطاع بسرده الشيّق ولغته المنسابة أن يجذب القارئ ويدفعه إلى القراءة بمتعة متنقّلاً معه من فصلٍ إلى فصلٍ ومن موقف إلى آخر، ولتكون هذه الرواية مثل كثيرٍ غيرها شاهداً على محنة السوريين ومأساتهم، وتأريخاً لما مرّوا به من مصائب في بدايات القرن الحادي والعشرين.

التعليقات (2)

    احمد ١

    ·منذ سنة 4 أشهر
    نعم اقناع العبيد بالحرية صعب

    حسون

    ·منذ سنة 4 أشهر
    هل سمح نظام المجارير الاسدي ببناء معمل واحد في الساحل ؟ ابدا . المطلوب ان يولدوا في الفقر و بعبشوا في الذل ويكونوا جاهزين للالتحاق بالسلك العسكري . على قولة ملعون الوالدين رفعت النجس : بطاطا و مرقا و 300 ورقة . هذا سعر المجند العلوي في نظر ربه الاسدي . اتفوااااا
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات