ثورة الجياع ثورة لأجل الكرامة أيضاً

ثورة الجياع ثورة لأجل الكرامة أيضاً

سيُثير هذا العنوان ابتداءً كثيراً من اللغط والاستهجان من قبل بعض من يعتبرون أنفسهم أوصياء على وحدة المواصفات والمعايير الـــــ (ثورية)، وهم طالما عبّروا قبل ذلك عن استهجانهم وسخريتهم من هذه الثورة، معتبرين أنها مجرد ثورة جياع لا ترقى إلى معايير ومواصفات (ثورتهم) التي يصرّون دائماً على وسمها بثورة الحرية والكرامة وكأن التجويع والإفقار لا تنتقصان من الكرامة وتمرّغانها في التراب.

كل الثورات تنطلق شرارتها من احتقانات متراكمة ومتراكبة من عوامل بعضها اقتصادي وبعضها الآخر خدمي وبعضها مرتبط بقضايا التهميش والإقصاء والحرمان من الحقوق والحريات، لكن دائماً وأبداً ما كان البعد الاقتصادي هو جذر المسألة وسببها المضمر، وهذا ينطبق على كبريات الثورات عبر التاريخ كالثورة البلشفية في روسيا القيصرية، والثورة الفرنسية والثورة الصينية وكل ثورات أمريكا اللاتينية.

الثورة السورية نفسها في تحليلها العميق كانت جذوتها الرئيسة اقتصادية، فبينما كانت احتياجات الأسرة في العام 2010 تستلزم مايعادل 600 دولار شهرياً، لم يكن يتجاوز متوسط الدخل 150 دولاراً، وكان 34 % من السكان (أي ثلث سكان سوريا) في ذات التاريخ يعيشون تحت خط الفقر، بينما يرتع حفنة لصوص بموارد البلد وثرواتها الوطنية ويسيطرون على مقدّرات اقتصادها حتى تحول جاهل غبي كـ رامي مخلوف إلى أخطبوط يستحوذ على مقدرات 60 % من اقتصاد سورية!. 

ومن يتتبع تطورات المشهد الاقتصادي والاجتماعي بعد الولاية الأولى لبشار الأسد يدرك هذه الحقائق، حيث اكتملت عملية التحوّل لاقتصاد السوق وتحرير الأسواق بشكل اعتباطي وتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي التقليدي، ما حوّل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد ريعي يقتصر على التوسع في إنشاء ودعم البنوك الخاصّة وشركات الاتصالات الاحتكارية الخاصّة والخدمات السياحية والعقارية وحكرها على مجموعة من المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال الطفيلية الناشئة عن تحالف بين فئة من التجار وقادة الأجهزة الأمنية وفتح الأسواق أمام المنتجات والشركات التركية بلا ضوابط، ما أدى لانهيار الصناعة والزراعة لعدم قدرتها على المنافسة، كل ذلك بالإضافة لعمليات النهب المنظّم للثروة والموارد من قبل عصابة السلطة وندرة في فرص العمل وتحول السلطة وإداراتها إلى مجرد إقطاعيات للفساد والرشوة والمحسوبيات، فشل في السياسات الزراعية وتخلّي الدولة عن دعم المزارعين، ما أفضى إلى هجرة مئات الآلاف من المزارعين من الأرياف إلى عشوائيات المدن الكبرى.. كلها تراكمات لفشل سياسي واقتصادي وتسلط أمني وضعت السوريين أمام الحائط المسدود الذي لا بدّ من هدمه، فكانت شرارة درعا هي المطرقة التي سيتعيّن على السوريين حملها لهدم هذا الجدار والانطلاق لفضاء أرحب شاهدوا إمكانية تحقيقه كما حصل بشأن أنظمة أخرى لا تقلّ وضاعة وإجراما بحق شعوبها عن نظامهم. 

المترف لايثور.. الجائع وحده يملك أسباباً لفعل ذلك، ولا شيء يشينه أو ينتقص من كرامته أن يثور ويعلن رفضه لواقعه لأنه جائع، ولأنه لايجد فرصة عمل، ولأن حاجاته الأساسية كإنسان ليست في متناول يده فيما هي جزء من حقوقه الأساسية التي يتعين على السلطة توفيرها وتلبيتها.. وعندما تعجز عن أداء تلك الوظيفة -رغم توفر الثروات والموارد الوطنية- وترفض الرحيل في آن لا يملك إلا الثورة عليها لاسترداد حقوقه المنهوبة والمنتهكة.

وما فعله أبناء السويداء ثورة حتى لو اقتصرت على ساعات من الاحتجاج، وحتى لو كانت لأجل رغيف الخبز فحسب، فكل فعل يعلن فيه فاعله عن رفضه لتلك السلطة المجرمة مهما كان صغيراً أو متواضعاً هو مدماك جديد يؤسّس لما بعده ويعري تلك السلطة ويعلن فشلها وأكاذيبها، ولا يجوز بحال أن ننتقص منها، بل يتعين دعمها ومؤازرتها بكل الوسائل الممكنة بدلاً من الشطط في استهجانها والتصغير من شأنها، وكأن ما قمنا به نحن صار هو المقياس، بينما حقيقة فشلنا ما تزال متجسّدة أمامنا ولا أحد من أولئك يجرؤ على مجرد التظاهر ضد الطغاة الجدد الذين يرزح تحت حكمهم وسلطانهم!. 

في ظل واقعنا المزري وما آلت إليه أمورنا جميعاً نحن بحاجة اليوم للكفّ عن المزاودات والتلطي وراء العناوين والشعارات، والبحث عن المشتركات وعن ما يشدّ أزرنا جميعاً لنتمكن من الخروج من المستنقع الذي وصلنا إليه فحالنا في مناطقنا ليس بأفضل من أحوال الآخرين حيث هم.. وعندما نكون جميعاً معبّرين عن حقوق ومصالح شعبنا لا أدوات لخدمة سياسات ومصالح الآخرين على أرضنا عندها تماماً نكون قد انتشلنا أنفسنا من المستنقع الآسن ورسمنا طريق انعتاقنا وخلاصنا. 
    
   

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات