مكافحة الفساد أم غياب الكفاءة؟

مكافحة الفساد أم غياب الكفاءة؟

روي أن رئيس الاستخبارات الفرنسية في الستينيات "جاكييه" أخبر الرئيس ديغول أن أجهزته اكتشفت أن أحد العملاء الفرنسيين يعمل جاسوساً للأمريكان، مؤكداً أنه لا شك في أن الرجل عميل مزدوج ولكن ليس ثمة دليل مادي يمكن أن يدينه، قال ديغول: لا بأس، فلتجعلوا بيني وبينه موعداً، وهكذا كان، فما أن دخل الرجل وصافح الرئيس حتى فاجأه بالسؤال الصاعق: منذ متى تعمل جاسوساً لدى الأمريكان؟ أجاب: منذ عشر سنين، سأله ديغول: فبماذا كلّفوك؟ قال: بالعمل ما أمكن على الحيلولة دون تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب! وبالتالي، فإن غياب الكفاءة يشكل أرضية خصبة للفساد.

ولعل مؤسسات الثورة والمعارضة اليوم من أبرز الأمثلة على شراسة الفساد الذي يمكن أن يؤدي إليه عدم الكفاءة، وغياب الكفاءة ليس إلا نتيجة لعدم اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، إذ إن سفاهة مخرجات الائتلاف والحكومة والمؤقتة وما يتبعها من مؤسسات هي نتيجة لبرامج/مناهج عمل غير مناسبة لمتغيرات اليوم، واختيار أشخاص غير مناسبين لإدارة تلك البرامج، قد يبدو ذلك طبيعياً إذا ما علمنا "أنّ أي منظومة جماعية مؤطرة تحتكم إلى مجموعة من النظم والعلاقات ويتدرج فيها الكادر رتباً تصاعدية، هي عرضة للفساد ما لم تتسلح تلك المنظومة بقوانين صارمة تحميها من الانزلاق والتردّي والوقوع في جبّ الأهواء والمكتسبات الشخصية مما يبلور مفهوم الفساد". 

كيف لا؟ والكل يريد امتهان السياسة دون معرفة بأبسط مبادئها، خاصة إذا علمنا أن مهنة السياسة يمكن الولوج إلى ميدانها دون مقابلات عمل أو اختبارات كتابية، فهذا المجال بابه مفتوح على مصراعيه يلج فيه كل من أراد، والسلطة كالسياسة، ميدان مشاع يمكن أن يدركها المهندس، والتاجر، والطبيب، والمفكر، والميكانيكي، والدارس للعلوم السياسية، وفي المعارضة السورية والجيش الوطني أمثلة على كل هؤلاء، هذا ما يمكن ملاحظته من خلال الغوص في كتب الفكر السياسي، ولا يظن ظانّ أن هذا فقط في الدولة المستبدة، بل هناك أمثلة على مثل هؤلاء في دول ديموقراطية عتيقة.

كل طرف يظن أنه مستعصٍ عن السفاهة التي يستجلبها عدم الكفاءة، وإنه في تيسير الشؤون السياسية والعسكرية علم في رأسه نار، هذا الظن أصبح واقعاً تقريباً، أي إن انحراف وتدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال تشكيل العصبيات والرشوة وغيرها من أساليب تعظيم المنفعة الخاصة على حساب العامة، هذه الحالة أصبحت القاعدة، والكفاءة هي الاستثناء، ففي "العمل السياسي عدم الكفاءة أخطر من الفساد"، فالأول باب  للثاني، والكفاءة تعني القوة بمعناها الواسع الذي يضم الخبرات والمعارف اللازمة للتأثير، أي إن ذلك يتطلب كاريزما وأهلية شرعية وقدرة على فهم الواقع، وهذا ما لا يتوفر في الكثير من الشخصيات السياسية والعسكرية.

اليوم، نحن بحاجة إلى كفاءات من نوع خاص، كفاءات مناسبة لبيئة الثورات، لأن الملاحظ أن الكفاءات السياسية التي تتصدر المشهد السوري اليوم في الأعم الغالب هي "تكنوقراط ذات بعد مالي أو اقتصادي فقط"، ولا قدرة لها على فهم ما يمكن أن يحدث وما لا يمكن التحكم فيه، ولا قدرة لديها على تحديد الحلفاء، باعتبار أن ذلك وسيلة لإيجاد الطريق إلى الأمام، والتعامل مع القضايا، إن تحقيق هذه الأشياء يعتمد على رؤية سياسية واسعة، فالأمر ليس مجرد وضع خطة والإشراف على تنفيذها، بل يجب تحديد الحلفاء، والحصول على تأييد، وبناء تحالفات وقيادتها، ورسم خريطة للتضاريس السياسية المحلية والوطنية والإقليمية والدولية. 

خلال العقد الماضي، شكّل غياب الكفاءة السياسية أحد أهم العوامل التي أفضت إلى الرداءة على مختلف المستويات، حيث جُعل القرار في أيدي مسؤولين هم في مواقع القيادة العليا، لكن دون أن تتوفر لديهم أدنى مقومات الكفاءة السياسية التي ذكرت منها آنفاً، لأن أصحابها وإن كانوا في قلب الفعل السياسي، إلا أنهم في حالة من التنافر معه، ولعل الإخفاقات التي عصفت بالمنطقة في الفترة الأخيرة أحد الأدلة على ذلك، وبالتالي، لا علاقة للكفاءة بالتكوين العلمي أو الشهادة والخبرة المهنية، والتي لا يمكن اعتبارها أساساً للكفاءة السياسية، صحيح أن الكفاءة متنوعة؛ إلا أن "سنام هذا التنوع هو الكفاءة السياسية".

يبقى الأساس في اختيار الأشخاص للمناصب السياسية قائماً على أساس الكفاءة وليس الولاء، وهذا الأمر يضعنا كسوريين أمام مهمة صعبة للغاية، هذه المهمة تشكل جوهر الديمقراطية وهي اختيار من يمثلنا، أي إن الحال الذي نحن فيه سيبقى على ما هو عليه ما دام تغييره ليس في يدنا، إلا أنه ليس مستحيلاً، ليس مستحيلاً إذا أقنعنا أنفسنا بفكرة تبدو منطقية إلى حد بعيد، وهي أن الحل في سوريا "لا يخرج عن احتمالين، وهما: القبول بحل خارجي، أو تغليب المصلحة العامة على الخاصة". وهنا يأتي دور الكفاءة السياسية في محاولة الموازنة بين ما تريده دول الملف السوري وما نريده نحن السوريين، وهذه الموازنة لا تتم إلا باختيارنا لأشخاص يتمتعون بالقوة والأمانة.

أخيراً، غياب الكفاءة السياسية جالب للفساد، تنظيمنا لأنفسنا هو ما يحقق الأولى، ويخفف الثانية لحد بعيد، وإن التغيير كثيرة أجزاؤه، شاقة تطبيقاته، متعددة مستوياته، طويلة مراحله، عظيمة تضحياته، وسنام ذلك كله الاهتمام بالسياسة على كل المستويات، كونها جزءاً من الحياة اليومية، ولكن هذا هو حال الأيام في الثورات؛ صيّرت الأمور إلى غير أهلها، وتم إقصاء أهلها، فرحلوا.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات