لا يمكن لدكتور جامعي أن يترك منصبه المرموق مقابل العمل كناطور لأحد الأبنية السكنية إلا حين تدق نواقيس الأزمات أجراصها لتعبّر عن انقلاب المعايير ودخول مراحل الخطر والفقر، وهو ما ينطبق على لبنان الغارق بأزماته الاقتصادية والسياسية والأمنية بسبب مشاريع إيران التخريبية في المنطقة.
وكتب الأستاذ الجامعي والباحث السياسي الدكتور اللبناني، نسيب حطيط، على صفحته في "فيس بوك" قصة أحد زملائه الذي زاره في الجامعة قبل أيام، وقدّم استقالته من التعليم الجامعي "والحزن والغصة تغلّف ورقة استقالته وكلماته الضعيفة".
وقال حطيط إن زميله المستقيل "بعد أكثر من عشر سنوات في التعليم الجامعي وشهادة دكتوراه.. وجد نفسه هامشياً في مجتمعه ..ودون كرامة أو تقدير لعلمه.. فهو يتقاضى مبلغ 60 ألف ليرة عن الساعة.. ويقبضها بعد سنة أو سنتين ويتحمل نفقات التنقل التي تزيد عن ما يقبضه وبدون ضمان صحي".
حاول الدكتور حطيط إقناع زميله بالتراجع عن استقالته على أمل انتهاء الأزمة قريباً وعودة الأمور إلى مسارها الحسن، لكنه أصر على قراره وأجاب بحدة: "قررت أن أعمل ناطوراً للبناية حيث اسكن؟"، وحين سأله عن السبب أجابه قائلاً: "يوم أمس قدم الناطور استقالته وأبلغنا أنه لا يستطيع الاستمرار بالراتب القديم (مع العلم أن سكنه والكهرباء والماء على حساب سكان البناية) وطلب راتب ستة ملايين ليرة ؟؟".
وتابع الدكتور المستقيل قصته: "وبما أنني سأدفع له ..ما يساوي ما أقبضه من الجامعة ..فطلبت من الجيران التمهل ..ودرست الموضوع طوال الليل فوجدت أن المناسب والأكثر ربحاً لي أن أعمل ناطوراً للبناية ...فأقبض 6 ملايين (دون ضريبة) وآخذ الكهرباء والماء والسكن مجاناً ..وأرسل عائلتي إلى الضيعة ..وأوفر أجرة النقل (3 أيام في الأسبوع حضورياً) مما يوفر مليونين ونصف فيصبح مجموع راتبي 8.5 ملايين ..ولا أعود مضطراً لشراء بدلة صيفية وشتوية تليق بالتعليم (توفير 200 دولار ما يساوي 8 ملايين فيصبح الراتب 9 ملايين ليرة".
طالب حطيط زميله المستقيل بضرورة التضحية وحماية الجامعة الوطنية، فردّ عليه قائلاً: "أولادي أولى بأن أقدم لهم، حتى لا يموتوا جوعاً"، وقبل أن يغادر التفت إلى زميله وقال له: "أنا على استعداد لإعطاء الدروس (أونلاين مجاناً) لحفظ الجامعة واستقبال الطلاب (تطوعاً) في غرفة الناطور"، وعندها أجابه حطيط بقوله: "سيبقى اسمك على برنامج الدروس.... ولن أمحوه".
حكاية الدكتور الجامعي تلخّص ما وصل إليه لبنان على المستوى الاقتصادي، وكيف عصفت به الأزمات خلال الأعوام والأشهر الماضية بسبب الفساد الحكومي والتنازع على السلطة، وما أعقبه من انهيار لليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، الأمر الذي دفع بآلاف اللبنانيين للهجرة خارج البلاد هرباً من واقع "الجحيم" الذي أوصلتهم إليه الحقبة الحاكمة.
ويعاني لبنان من أزمات اقتصادية وسياسية معقّدة منذ انفجار مرفأ بيروت في آب عام 2020، والذي أعقبه صراع سياسي نتيجة تسلط الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) على مفاصل الدولة، الأمر الذي زاد حِدّة الأزمة الاقتصادية وفقدت الليرة أكثر من 90 % من قيمتها، وتخطّت حاجز 40 ألف ليرة أمام الدولار، في تدهور تاريخي منذ تشكيل حكومة نجيب ميقاتي التي فشلت في إنقاذ البلاد من أسوأ أزماتها الاقتصادية والسياسية في التاريخ الحديث.
وكان البنك الدولي قال في تقريره الصادر في تموز الماضي، إن "الأزمة الاقتصادية والمالية الشديدة في لبنان من المرجح أن تصنَّف كواحدة من أسوأ الأزمات التي يشهدها العالم منذ أكثر من 150 عاماً، وأوضح البنك الدولي أنه منذ أواخر عام 2019 يواجه لبنان تحديات معقدة، بما في ذلك أكبر أزمة اقتصادية ومالية في زمن السِّلْم، في ظل انتشار فيروس كورونا وبعد انفجار هائل في ميناء بيروت العام الماضي".
ويعدّ ذلك الواقع المأساوي ترجمة حقيقية لكلام ميشال عون خلال مؤتمر صحفي في أيلول العام الماضي أي قبل عام، حين سألته صحفية لبنانية "لوين رايحين؟" في حال تعثر تشكيل الحكومة فقال: "طبعاً ع جهنم"، مادفع اللبنانيين حينها لإطلاق وسم "رايحين_عجهنم" على مواقع التواصل الاجتماعي.
التعليقات (0)