لأجل قرن تركي جديد (2 من 2)

لأجل قرن تركي جديد (2 من 2)

يُعتبر مبدأ سيادة القانون من أهم المبادئ التي تُتخذ كوحدة قياس لمستوى الرقي والتحضّر في إدارة شؤون الدولة والمجتمعات، فضلاً عن قوة ومشروعية السلطة الحاكمة لكونه يؤشّر لمدى امتثال تلك السلطة المتأتية عن الاختيار الحر للناس لموجبات القانون الذي شرّعته عبر مؤسساتها المختصة والذي يُفترض خضوع الجميع له ولأحكامه سواء أكانوا حكاماً أو محكومين. 

وهي المسألة الثانية التي ستشكّل محوراً لمقالنا الثاني تحت نفس العنوان، وأعتقد أن هذه مسألة في غاية الأهمية لتعزيز مناعة الدولة التركية وفرص ارتقائها أكثر والانتقال بها إلى قرن جديد أكثر تطوراً واستقراراً وثراءً فعلاً، فتعزيز قيمة ومبدأ سيادة القانون يُكرّس العدل على مزيد منه، والذي بدوره يعمّق الطمأنينة بين الناس، فكلّ تطوّر وارتقاء في أي منحى من المناحي يَفقد قيمته ما لم يتحصّن بقوة القانون وسيادته.. ولست أنفي هنا عن تركيا التزامها الصريح ودأبها المستمر لتعزيز هذا المبدأ إطلاقاً، ولكن هذا لا يُلغي وجود فجوات وثغرات في هذا المسار يتعيّن طرحها ونقاشها ضمن الفضاء العام بهدف لفت النظر إليها والحض على تداركها تعزيزاً لبنيان الدولة وتعضيداً لمؤسساتها.. وسأتطرّق هنا إلى جانب يتعلّق بضعف هذا المبدأ فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين فقط، وما جاء في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش بهذا الشأن وردّ رئاسة الهجرة التركية عليه. 

بتاريخ 27 \ 10 \ 2022 أصدرت رئاسة الهجرة التركية بياناً نُشِر على معرفاتها الرسمية، كما نشرته قناة TRT عربي على موقعها الرسمي تضمّن رفضاً ونفياً لما ورد في تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش فيما يتعلق (باعتقال واحتجاز وترحيل مئات اللاجئين السوريين تعسفياً إلى سوريا)، واعتبرت رئاسة الهجرة ما جاء في التقرير (فاضحاً وبعيداً عن الواقع).. وقبل الخوض في تفاصيل التقرير وردّ رئاسة الهجرة عليه من المهمّ الإشارة هنا إلى نقطة مهمّة وردت في ردّ رئاسة الهجرة وهي قولها إن (سوريا حاليا أحد البلدان التي يُطبّق عليها مبدأ عدم الإعادة القسرية).. وهي مسألة مهمّة جداً في سياق تحليلنا ونقاشنا حول ما إذا كان أولئك الذين عادوا إليها عادوا طوعاً أو قسراً وحول مشروع العودة الطوعية لمليون سوري إلى مناطق الشمال السوري.  

وكما هو معلوم للجميع، فإن تركيا استقبلت ما يعادل ثُلثي عدد اللاجئين السوريين في العالم كله وأحسنت وفادتهم، وهذا ما أكّدت عليه منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها الأخير عندما قالت إن لتركيا "سجلاً سخياً" كدولة استضافت عدداً من اللاجئين أكثر من أي دولة أخرى في العالم وحوالي أربعة أضعاف ما استضافه الاتحاد الأوروبي بأكمله، والذي قدّم مقابله الاتحاد الأوروبي مليارات الدولارات لتمويل الدعم الإنساني وإدارة الهجرة  لكن (عمليات الترحيل تمثّل نقيضاً صارخاً لهذا السّجل)، ثم أفاض التقرير في شرح وقائع وتفاصيل عمليات نقل وترحيل غير قانونية لسوريين أُجبروا على التوقيع داخل مراكز الاحتجاز على وثيقة "العودة الطوعية" وعوملوا بطريقة غير إنسانية خلال عمليات نقلهم واحتجازهم، واستعرض التقرير العديد من المقابلات مع أشخاص تم ترحيلهم فعلاً قدّموا فيها شرحاً لأسباب ترحيلهم وكيفية معاملتهم المسيئة وتعرضهم للعنف والشدة سواء خلال نقلهم إلى -أو في- مراكز الاحتجاز المؤقتة التي يتم تجميعهم فيها قبيل ترحيلهم، ثم خرج التقرير بأربعة توصيات موجّهة للحكومة التركية تحضّها فيها على إنهاء عمليات الاعتقال والاحتجاز والترحيل التعسفية للاجئين السوريين إلى شمال سوريا، وضمان عدم استخدام القوى الأمنية العنف ضد السوريين أو غيرهم من المواطنين الأجانب ومحاسبة من يفعل ذلك، والتحقيق بشكل مستقل في إجراءات التوقيع على استمارات العودة الطوعية، وكذلك السماح لمفوضية شؤون اللاجئين بالوصول لمراكز الترحيل ومراقبتها لعمليات الحصول على موافقة السوريين على إعادتهم لبلدهم وأن ذلك يتم بإرادتهم، وهي من وجهة نظري توصيات رصينة لا تُسيء لتركيا ولا لمكانتها ودورها في احتضان ثلثي عدد اللاجئين السوريين في العالم كله.

لكن مع الأسف نفت تماماً رئاسة الهجرة التركية إعادة أي لاجئ سوري قسراً من تركيا وإعادته إلى سوريا التي أقرت هي أنها واحدة من الدول التي يُطبّق عليها مبدأ عدم الإعادة القسرية الذي تلتزم به تركيا باعتباره جزءاً من اتفاقية حقوق اللاجئين الملتزمة بها، وباعتبار أنه أيضاً التزام قانوني للدولة التركية بموجب قانون الحماية المؤقتة الذي يُعالج الأوضاع القانونية ويخضع له السوريون في تركيا، واعتبرت أن كل من عاد أو أعيد إلى بلده إنما كان "عودة طوعية وبإرادة حرة وخالصة للعائدين أنفسهم"!، والحقيقة أن هذا الزعم في غير محلّه وليس صحيحاً تماماً، فمعظم من عادوا أو أُعيدوا تمت إعادتهم قسراً دون إرادتهم ولأسباب تافهة بعضها متعلق بشكاوى كيدية وبعضها متعلق بمخالفات في مكان الإقامة أو عدم الحصول على إذن سفر، وهي مخالفات لا تستوجب الترحيل، وهذا أصلاً ما أكّدت عليه تقارير لمنظمات حقوقية تركية قبل أن يرد في تقرير هيومن رايتس ووتش نفسها. 

وبالتالي، فإن إنكار الحقائق لا ينفي وجودها، وإنكار عمليات الاحتجاز والمعاملة القاسية والمسيئة في مراكز الاحتجاز وإنكار عمليات الترحيل القسري لا ينفي أن كل تلك الأمور والوقائع حصلت فعلاً، وما تزال تحصل وأن ماجاء في تقرير هيومن رايتس ووتش ليس فيه افتئات ومزاعم بل حقائق لها أسانيدها، وكان يتعيّن على السلطات المختصّة بدلاً من إنكارها العمل على تصحيح الأوضاع محل الشكاية وإرسال رسائل أكثر إيجابية لمن يعنيهم الأمر في الداخل والخارج معاً أننا نعم سنجري تحقيقاً شاملاً وشفافاً فيما ورد في هذا التقرير وسيكون لهذا مترتبات إيجابية على أوضاع اللاجئين السوريين وأننا سنطوّر أداءنا ونرشّد سلوك موظفينا من ذوي الشأن والاختصاص بهذا الملف ليستجيب للمتطلبات الإنسانية والقانونية للاجئين بما يضمن عدم إعادة أي لاجئ منهم رغماً عن إرادته إلا استجابة لموجبات قانونية وردت على سبيل الحصر في قانون الحماية المؤقتة. 

إن الاعتراف بالخطأ خير وأصوب من التمادي فيه والمكابرة عليه، فالدول والمؤسسات كيانات يُدير شؤونها بشر يخطئون هنا ويصيبون هناك، ومن طبيعة الأشياء ألا تجد بشراً على صراط الصواب دائماً، وبالتالي ليس معيباً ولا مشيناً القول إننا أصبنا هنا وأخطأنا هناك، بل على العكس فهذا السلوك يقوّي مناعة الدولة ويعزز مكانتها ويسقط في يد المتربصين إن وجدوا، وتكون الدولة التركية قد قفزت للأمام خطوات مهمة في تعزيز مبدأ سيادة القانون وانتصرت لنفسها من أخطائها، وهي التي تسعى على مستويات شتى لتجعل القرن الجديد قرناً تركياً بامتياز.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات