مع نهاية الشهر الفائت وضعت الدولة التركية أقدامها على عتبات المئوية الأولى، حيث انقضت تسع وتسعون سنة على تأسيس الجمهورية الحديثة التي خلعت عباءة الإرث الامبراطوري السابق وبدأت خطواتها نحو العصرنة، وطُويت إلى غير رجعة صفحات ما يزيد قليلاً عن ستة قرون.
بدون أدنى شك شهدت تركيا تحوّلات كبرى على مختلف المستويات خلال الربع قرن الفائت، وهذا هو الطبيعي، فالدول لا تبقى –ولا يجب أن تبقى- في حالة سكون، لأن هذا الأخير يفضي بالضرورة لموت تلك الدول وتحللها لأنه على النقيض من قوانين التطور وحركة الحياة والتاريخ.
على أية حال لا أسعى في هذه المساحة المتواضعة لتسليط الضوء على التجربة التركية وهي غنية ومغرية بطبيعة الحال، لكني أسعى وأهدف من هذه السطور لتسليط الضوء على قضيتين من وجهة نظر مواطن سوري – عربي ومكتسب للمواطنة التركية، وأعتقد أنه من المهم للدولة التركية بكل هيئاتها ومؤسساتها وأدواتها السياسية والمجتمعية وهي على أعتاب قرن جديد العمل عليهما خلال المراحل القادمة طالما أنها تسعى ليكون القرن الجديد قرناً تركياً بامتياز ضمن السياق الزمني للدولة التركية الحديثة.
المسألة الأولى وهي موضوع هذا القسم من المقال هي قضية العنصرية الطاغية في الخطاب والسلوك العام من قبل قطاع لا يُستهان به من المجتمع التركي تجاه شعوب أو قوميات يعتقد هؤلاء العنصريون أنهم أقل شأناً وقيمة إنسانية منهم، وأن الأتراك أكثر تفوقاً من تلك الشعوب عرقياً أو حضريًا، وهو بطبيعة الحال ليس أكثر من شعور زائف تكرّس وتعزز عبر مساحة زمنية ليست قصيرة غابت فيها الحقائق عن الناس وتم حشو عقولها بأفكار مغلوطة ومضللة في ظل حالة انغلاق مجتمعي شبه كامل عن تعلّم لغات وبعضٍ من تاريخ الشعوب الأخرى المغايرة إلى الدرجة التي تتفاجأ فيها أن قطاعاً كبيراً من الناس يرفضون تعلّم لغات أخرى لأن تلك الدول لا تتعلم التركية أو تتحدث بها أيضا!، أو لأن الدول الناطقة بتلك اللغات احتلت في يوم ما أرض بلادهم، دون أن يقيم هؤلاء وزناً لمسألة أن تلك اللغات -كالإنكليزية مثلاً- لم تعد حكراً على الإنكليز، بل هي لغة عالمية يحتاج إليها العالم كله، لخلق حالة تواصل صارت مهمة جداً في مختلف مناحي الحياة والشراكات السياسية والاقتصادية.. فليس من الطبيعي ألا يكون في المطارات التي تستقبل ملايين السياح سنوياً من لايتحدث لغة أجنبية تمكّنه من التواصل.. وليس من الطبيعي ألا يكون موظفو دوائر الهجرة -التي لا يراجعها أصلاً إلا الأجانب- من المتحدثين بالتركية فحسب!.
في هذا السياق، من المهم أن نُعرّج سريعاً ونحن نناقش مسألة العنصرية على تلك المواقف والسلوكيات الناضحة بالعنصرية والكراهية للعرب الذين غدروا وخانوا الدولة العثمانية وتسببوا بانهيارها وتفككها كما يعتقد قطاع وازن من المجتمع التركي الذي تكرّست لديه تلك النظرة الأحادية للأحداث والفهم الأحادي والمجتزأ للتاريخ.
ربما لا يدرك معظم الأتراك أن عوامل تفكك وسقوط الإمبراطورية العثمانية كانت كامنة فيها قبل كل شيء لكونها بقيت على رصيف التاريخ ولم تستطع استيلاد سبل وأدوات التطور اللازم للعبور نحو المستقبل، وبالتالي فكان عمرها الافتراضي كامبراطورية قد انتهى حقاً كما انتهت معها الإمبراطورية القيصرية الروسية والامبراطورية الألمانية لتتنحى تلك الامبراطوريات جانباً وتفسح في المجال التاريخي لبزوغ امبراطوريات أخرى وهذه هي سنن التاريخ والدول.
لقد سبقت الخيانات والمؤامرات الداخلية من داخل مؤسسات الحكم وخارجه ومن منظمات داخلية وخارجية ما يُنسب إلى العرب من خيانة للدولة، أقلها ما يتعلق مثلاً بمؤامرة اغتيال السلطان عبد العزيز عام 1876 وبعدها مؤامرة عزل السلطان عبد الحميد عام 1909، وهي جزء من سياق تم الاشتغال عليه طويلاً من قبل أتراكٍ نافذين كان دأبهم تفكيك بنيان السلطنة المتداعي ولم يكن للعرب يد في كل ذلك على الإطلاق!، وبالتالي فإن تلك الأفكار التي تم حشوها في عقول أجيال متعاقبة عن خيانة العرب للدولة العثمانية يجب العمل على تصحيحها والإشارة لها تاريخياً أيضاً –إن كان لذلك ضرورة علمية تاريخية- على أنها في وجه من وجوهها ردٌّ على مظالم مورست ضد العرب، وفي وجه آخر لها كجزء من استجابة الشعوب لأفكار عصر القوميات، خصوصا أن الخروج من العباءة العثمانية لم يكن خروجاً للعرب وحدهم، فهناك شعوب كثيرة خرجت أيضاً وبنفس اللحظة التاريخية من تلك العباءة، كالبلغار وشعوب القرم والبلقان والأرمن وغيرهم.. لكننا لا نرى موقفاً فكرياً أو ثقافياً أو سلوكياً عنصرياً تجاه هذه الشعوب باستثناء العرب!.
من المهم بالنسبة لنا القول إننا في هذا المقام لا نعمل على نكء الجراح، بل على العكس نسعى لجسر الهوة النفسية والمعرفية والقيمية بين العرب والأتراك، ونرى أن كلاهما رصيد استراتيجي للآخر يتعيّن تطويره واستثماره على نحو أمثل ليكسب الشعبان مناعة وقوّة ويكونان أكثر قدرة واستعداداً على التعاون والتنسيق فيما بينهما في زمن المشاريع الكبرى الأخرى التي تتهدد مصالح الشعبين.
وهذا ما يدفعنا بالخلاصة للقول إن الانغلاق المعرفي والثقافي لن يُتيح للمجتمع الارتقاء في مفاهيمه وأدوات إدارة علاقاته مع الآخر، وستبقى الفجوة واضحة للعيان بين القفزات الاقتصادية والتطور الحضري والمديني من جهة، وبين تطوّر أنماط الفكر والتفكير الذي ما يزال معظم الإخوة الأتراك أسرى له حفاظاً على هوية ذات خصوصية مفترضة قد يهددها الانفتاح الثقافي والمعرفي واللغوي على الشعوب والمجتمعات الأخرى، فالألمان لم يتهدد كيانهم ولم تضمحلّ لغتهم عندما يتحدثون الإنكليزية مع غير الألماني، وبقي الهنود هنوداً ونجحوا وتطوروا علمياً واقتصادياً، رغم أنهم لم يتعلموا بلغتهم فقط، بل تعلموا أيضاً بلغة بلد استعمرهم قرابة قرن من الزمن ولم يفقدوا خصوصيتهم!.
آفة العنصرية والشعور الكاذب بالتفوّق على الآخر سيبقى واحداً من أهم أسباب فشل التطور والارتقاء المجتمعي، لأنه يُبقي الإنسان حبيس لغته وحدها وأفكاره وكتبه وحدها، وأزعم أن تلك القضية واحدة من الاستحقاقات المهمّة التي يتعيّن على المؤسسات التعليمية ومؤسسات المجتمع المدني التركية الاشتغال عليها إن أُريد للقرن الجديد أن يكون تركياً حقاً.
التعليقات (0)