تاء التأنيث الغائبة عن انقلاب تشرين!

تاء التأنيث الغائبة عن انقلاب تشرين!

لم يخبرنا اسكندر لوقا بعد، لماذا أطلق حافظ الأسد اسم "الحركة التصحيحية" على انقلابه الشهير عام 1970؟! ولماذا لم يسمّه مثلاً "التحرك التصحيحي" ؟! لماذا أنّث ما قام بفعله حين انقلب على أهم رفاق دربه، وأكثرهم منفعةً له صلاح جديد؟! الأرجح أن نجاح العطار نفسها، وهي نائبة الابن في رئاسة تركة الأب وانقلابه، لا علم لها عن سبب التسمية، وهي التي كلّما تقدمت بالعمر صارت أكثر شبهاً برئيس كوريا الشمالية السابق "كيم جونغ إل". ماذا لو كان الاسم "انقلاب في تشرين" سيكون حينها أقرب إلى اسم فيلم رعب مؤذٍ للمشاعر والمزاج من إخراج "هتشكوك"، وإن كان الاسم "التحرك الصحيح ضد صلاح جديد" سيكون حينها أقرب إلى اسم أحد عناوين مقتنيات المكتبة الظاهرية بدمشق، منه إلى اسم انقلابٍ عسكريّ سياسيّ خاطف ذبحَ بلاداً حالمة كما تُذبح دجاجة. 

نصف قرنٍ وعامان!

لعلَّ حافظ الأسد أراد من وراء تأنيث صفة فعله العسكري السياسي يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970 وتسميته "حركة" التودّدَ من فصاحة مصطلح الثورة أو مقارباته، والذي تغالبه سيميائيّاً معاني التأنيث الملازمة لفطرة الولادة الجديدة، كما فعلت زمرة البعث الانقلابية قبل ذلك بسبع سنوات حين انقضّوا عسكرياً على شرعية الجمهورية المدنيّة، وسمّوا فعلتهم تلك " ثورة الثامن من آذار" ولم تكن ثورةً على الإطلاق، بل وقاحةً وصفية لم تغرِ حافظ الأسد باستدرار معانيها مجدداً في تسمية انقلابه الشهير، لكنه كحال سواه من شخصيات ديكتاتورية تنفرُ من تسمية الانقلاب انقلاباً، ربما لأن معاني الانقلاب تندرج سيميائياً تحت مضار الصفات الذكورية الصلفة، حيث الحدّةُ والقطعيّة والإلغائية وتصفية الخصوم، ولاحقاً تصفية كل القوى الحيّة داخل المجتمع.

لكن، وقبل انقلاب تشرين الثاني بشهرين كانت ملامح الوجه الحقيقي لوزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد تتقدُ بلا أقنعة، فقد خذل صلاح جديد، وامتنع عن دعم الجيش السوري جويّاً في تحركه لمساندة منظمة التحرير الفلسطينية خلال محنة ما عُرف بأيلول الأسود مع الجيش الأردني، والأرجح أن يكون حافظ الأسد قد أعدّ مسبقاً سيناريو الانقلاب الذي سيوصله إلى التفرّد بحكم البلاد قبل صدامه الأخير مع صلاح جديد، فهو شخص لا يترك شيئاً للمصادفات، وربما كان ينتظر فقط التوقيت المناسب لامتطاء سوريا، فبدا قرار صلاح جديد حينذاك بعزله مع مصطفى طلاس قراراً صبيانياً ضدَّ شخصٍ أمسك البلاد خلسةً، وعلى غفلة من حاكمها الفعلي منذ شباط/ فبراير من العام 1966 صديقه العتيق صلاح جديد.

وبعد العام 1971 صار حافظ الأسد هو حزب البعث، والدولة، والجيش معاً، وفي هذا تفوقٌ باهر على النموذج الستاليني الملهم لديكتاتوري العالم الثالث وجمهوريات الموز والبطيخ والفراولة، وتدريجياً صارت البلاد رماديةَ اللون تشبه شكل ولون الخرسانة التي كانت تبعثُ بها مؤسسة الإسكان العسكرية أبنيتها الجديدة في مناطق المزة والتجارة والزاهرة بدمشق، وصارت بلادَ العشوائيات التي تقرفص ساهمةً على أطراف المدن الكبيرة، وتصدّق الخرافات كثيراً، وصارت أيضاً بلاد الحزب الواحد، واللون الواحد، والتفكير الواحد، والاسم الواحد، صارت الجثّة الأكثر قبحاً في التاريخ السوري المعاصر.

الانقلاب الذي بقي انقلاباً

عمّرَ ذاك الانقلاب كثيراً، وورثه الابن بكل امتيازاته الزمانية والمكانية كما لو أنه عائدٌ استثماري لا ينضب، ومازال السوريون في مناطق النظام مرغَمين سنوياً على التبرّع بوقتهم الثمين لإحياء ذكرى استلاب سوريا يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر بواسطة عائلة أعادت بعث نظام الرقّ من جديد، وتجذيره بانقلاب خبيث يتنفسه الناس حتى الآن مرغمين أيضاً.

كان النظام يدوّن عبر كتاب مدرسيّ اسمه "التربية القومية الاشتراكية" أسماء الأبنية الحكومية والجسور الكئيبة وأنابيب الصرف الصحيّ المنتفخة وجوارب السماح النسائية وعلكة سهام التي لا تُقهر وأفران الرواس التي لا تصدأ وعصير الجبل الذي لا ينضب على أنها جميعها من منجزات الحركة التصحيحية الدامغة، ومن يشكك بذلك يكون إما من جماعة الإخوان المسلمين، أو من بقايا الهبيين، أو لا يزال متعاطفاً مع الثورة الثقافية في الصين كما لو أنها حدثت بالأمس.

واليوم يستطيع الابن حشر مزيدٍ من الإنجازات داخل انقلاب أبيه، باعتباره "انقلاباً" جذّاباً يحمل مرغماً اسم "حركة" ومن المجحف بحقها أن نعتبرها أقلَّ من حركة سريالية عبقرية لا محدودة، ولا تقبل الفناء أيضاً، يبحث فيها الجيل الناشئ من السوريين الأذلاء عن معنى الكهرباء والماء ووقود التدفئة ورغيف الخبز فلا يجدون سوى المسكنات وحبوب الترامادول ومنع الحمل ووجبات الحشيش اليومية برعاية إيران والحزب القائد، وعلى إسكندر لوقا أن يسرع قبل موته في تدوين هذا الجزء المشرق من تاريخ عائلة الأسد الحاكمة بانقلابٍ يسمونه حركة، وعلى نجاح العطار أن تتوخى الحذر من استمرار شبهها الشكليّ بنسل "كيم جونغ" الحاكم لكوريا الشمالية، وإلا خسرت امتياز أن تكون من منجزات الحركة التصحيحية، أو ربما من أكثر تلك المنجزات أهميةً على الإطلاق.   
  
             

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات