غربة الحيّزين الزماني والمكاني في رواية "الموتى يلقون النكات" للكاتب السوري حسين الزعبي

غربة الحيّزين الزماني والمكاني في رواية "الموتى يلقون النكات" للكاتب السوري حسين الزعبي

قليلة تلك الأعمال الروائية التي تشدك من أوّلها، فلا تكاد أن تقرأ منها صفحاتٍ قليلةً حتى تجد نفسك مشدوداً إلى المتابعة، ليس لأن الأحداث ضمن العمل الروائي قد تشعّبت وتعقّدت، فذلك ربما يكون مبالغاً فيه قبل أن نغوص جيداً في القراءة، بل لأنّ اللغة المنسابة دون تعقيد في سرد الأحداث هو ما يشدُّك إلى المتابعة حتى تجتمع لديك كقارئ الخيوط المتشعّبة في العمل الروائي، فتبدأ عملية التشويق في ربطك بالمتابعة بحبلٍ متين يضاف إلى ما سبق من لغة منسابة غير معقدة.

 لعلّ رواية "الموتى يلقون النكات" للكاتب السوري حسين علي الزعبي، الصادرة عام 2022م عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول، تعبر عن كل ما سبق دون مبالغة.

إنها رواية ثورة من ألفها إلى يائها كما مرّ في مقدمتها، فهي تعدّ من الأعمال الروائية التي تنتمي إلى الثورة السورية معنًى ومبنًى، فقد حاول الكاتب أن يؤرخ للثورة اليتيمة ثورة الكرامة وأحداثها الكبرى عبر سردٍ مليء بالوجع على بلد دمّرته آلة الحرب الهمجية لنظام فقدَ كل مقومات الإنسانية، فهاجَ كوحش كاسر أحرق الأخضر واليابس، فأخذ بذلك البلد وشعبه إلى المجهول.

حضور المكان وسطوته على المشاعر:

لقد حاول الكاتب أن يرسم الأمكنة بريشة فنان عبقري يدرك قيمة كل حركة من ريشته، فكان كمن يكتب قصيدة تنبض بالحياة وهو يتحدث عن دمشق، تلك المدينة التي تُعَدُّ أقدم عاصمة في التاريخ، دمشق التي تشكل عند السوريين عموماً ذاكرة الماضي المشرق عندما كانت عاصمة الأمويين، ومنها انطلقت جحافل الفتح شرقاً وغرباً: "لكنها على الرغم من ذلك كانت تضج بالحياة، ولا سيما في الصباح، فللصباح في تلك الأحياء صوتٌ ورائحة، وللأمكنة أرواح، ولكل مدينةٍ أنفاسها، وضجيجها الذي تعتّقه الذاكرة حتى يصبح بمرور الأيام معزوفة من مقامٍ واحد، تختلف ألحانها من حيّ لآخر."

العنصرية المقيتة وهشاشة الغرباء:

لم يكن فراس الذي تخفّى وراء ظلّه الكاتب لسرد أحداث الرواية، إلا نموذجاً للمهاجر الذي يواجه في كل لحظة من حياته العنصرية من بعض المرضى والشاذين إنسانياً من أهل البلاد التي قُدّر للسوريين أن يلجؤوا إليها، فهذه العنصرية المقيتة ولّدت عند اللاجئ شعوراً غريب الأطوار، فهو قاسٍ إلى درجة القتل دون أن يسمح لك بترف الصراخ: "العنصرية بحد ذاتها لم تكن مشكلة فراس، بل شيء آخر يتعلق بمدى إحساسه بهشاشة الغرباء، شيء أكثر قسوة من العنصرية، شيء يجرف أطراف جدار الروح بمخالبه من دون أن يسمح بترف الصراخ"

إن هذه العنصرية جعلت اللاجئ الهارب من الموت يعيش تيهاً طويلاً دون أن يعلم نهاية له في المدى المنظور، فأن تكون عربياً ومسلماً ولاجئاً، فأنت تحمل معك أسباب العداء لك، بل والكراهية الشديدة أيضاً: "أما مشاهدة التلفزة المحلية، فهي تزيد في الطنبور نغماً، فأنت عربي ومسلم ولاجئ، تحمل تهمتين فطريتين في معظم الأحيان، وممقوت في الثالثة، ثلاثة أوتار لا يكفّ الإعلام عن العزف عليها، ويزداد الإيقاع كلما اقتربت الانتخابات"

إرهاصات بداية النكوص العميق إلى الهاوية:

لقد كان لشخصية الأسد الأب قدرة على أن يترك مسافةً بينه وبين حلفائه الإيرانيين بحيث يبقى التعامل قريباً من الندّية تدير عقاربه بينهما لغة المصالح، إلا أنه بموته عام 2000م مورّثاً البلد لابنه الذي لم يكن يملك شخصية ( الطاغية الأب) ولا حنكته، جعل البلد لقمة سائغة في حلق جمهورية الملالي، فابتلعت إيران سوريا كدولة وفرضت عليها كل ما يُملى ويسهّل تسيير مصالحها ومشاريعها في المنطقة، فتحوّلت سوريا الدولة من شريك على عهد الطاغية الأب إلى تابع وبيدق في عهد (الطاغية الابن)، فتتالت القرارات والمراسيم الجائرة التي بدت للمتابع آنذاك أنها بداية النكوص إلى الهاوية: 
"في وقتٍ اتجهت فيه سوريا إلى مقتلها، بفعل قرارات رفع الدعم عن المواد الأساسية، وموضة اقتصاد السوق الاجتماعي، التي أطاحت بالجزء الأكبر من أبناء الطبقة الوسطى، وأوجدت خيم البؤس للقادمين من محافظتي الرقة والحسكة ممن تركوا أراضيهم ليعيشوا في مخيمات حول دمشق بحثاً عن عمل"

إن التغلغل الإيراني في سوريا دولة ومجتمعاً قد بدت ملامحه بالتبلور والظهور بشكل فاقع في سنيّ ما قبل الثورة، فما كان يحدث بشكل موارب وأقرب إلى السرية، أصبح علنياً ومستفزّاً، حتى بدا للمواطن السوري الفطن والغيور على وطنه أن بلده يُسرق منه شيئاً فشيئاً دون أن يملك القدرة على مقاومة ذلك الموج العالي الذي يسير بخُطاً واثقة بحماية أجهزة الدولة الأمنية: "يبدو أن للشوارع في سورية مهمة غير تلك الموجودة في كل الدنيا، فهي على الغالب تفصل بين حالتين، كان يمينُ الشارع المزدحم سورياً سنّيّاً فقيراً وأكاد أقول: معدماً، فيما يساره شيعيّاً غريباً ميسوراً.

فالطائفية التي كان السوريون يكتوون بنارها ولا يتجرؤون على الشكوى من سطوتها، صارت جليّة واضحة بصورة فجّة في المناطق التي غزتها أفواج الحج الإيرانية إلى مقام السيدة زينب في دمشق، فالوجع الطائفي الذي هرب منه العراقيون السنّة وجدوه أمامهم في دمشق في منطقة السيدة زينب: "الوجع الطائفي الذي هرب منه صلاح، وجده أمامه في منطقة السيدة زينب"

حضور العراق وتأريخ لحظة انهياره عام 2003:

لم يكن العراق دولة وشعباً إلا جزءاً من أفئدة أغلب السوريين، فهم ينظرون إليه بعين الإجلال نظراً لما كان يمثّله من جدار منيع وظهر راسخ كالجبل أمام أطماع إيران من جهة، وكابوس رعب في نفوس قادة الكيان الصهيوني لما يدركونه من قوته الجبارة التي خبروها في حال تفرّغ لجبهة فلسطين.

كل ذلك دفع الشباب السوريين المتحمسين إبان عملية احتلال العراق إلى التطوّع والذهاب إلى العراق لمشاركة أبنائه في الدفاع عنه في وجه المحتل الأمريكي، إلا أن ما وجدوه هناك وما تفاجؤوا به من معاملة من بعض أبناء العراق الشيعة الكارهين لنظام صدام حسين، جعلهم يشعرون بالصدمة، أكثر من انهيار الجيش العراقي وتلاشيه في وقت قياسي: "أما أن يتلاشى جيش بكامله وكأنه لم يكن، فتلك مصيبة عرفنا حينها أنها أهون مما سيأتي، وهمٌ كبيرٌ ذلك الذي كنا يا أصلان نسميه نسيجاً اجتماعياً متماسكاً، مجتمعاتنا ليست أكثر من أحجار خفّان هشّة تتحول لحبات رمل بمجرد أن تطأها سنابك الأزمات."

حصار الغوطة وتجويع أهلها:

لقد حاول الكاتب أن يمر على كل التفاصيل صغيرها وكبيرها في ثورة السوريين، وإن بإيجاز وتلميح، فمن لم تقتله البراميل المتفجّرة والأسلحة الكيمياوية، فالجوع بانتظاره ليفتك به فتكاً هو وعائلته، حتى اضطر البعض إلى أكل لحم القطط والكلاب: "من على قاسيون يمكن أن تشاهد بقعاً خضراء في نهاية المدى كانت تُسمَّى غوطةً، غوطة لم يترك لها زناة دمشق من اسمها نصيباً."

انشطار المجتمع السوري وانقسامه:

لم يغب عن ذهن الكاتب أن يأتي على انشطار المجتمع السوري وانقسامه بين مؤيّد "شبيح" وبين ثوري معارض، فقد وصل الحال إلى انقسام أهل البيت الواحد في ذلك، فتجد أخاً أو أختاً مع هذا الفريق، وأخاً آخر أو أختاً مع الفريق الآخر، فيصل الجدل أحياناً إلى درجة القطيعة بسبب تطرّف بعض المؤيدين إلى درجة التشبيح المقيت الذي لا يمكن التفاهم معه ولا التعايش أيضاً: 
"ما ذهبت إليه نايا من تبنّي موقف الثورة وضعها في مواجهة مع ريما وأمها وخالاتها الأخريات، فهنّ .. لعبنَ مبكراً دوراً تشبيحياً، فهنّ من النوع المؤيد بطريقة فجّة، .. فالقتل مُبرَّر .. والمقتول برأيهن يستحق القتل لمجرّد أن القاتل هو النظام."

المعتقلون والمسالخ البشرية:

لقد أبرز الكاتب صورة المعتقلات التي وصفها بالمسالخ ىالبشرية، فرسمها للقارئ واضحة بكل تفاصيلها التي تدعو للغثيان، لمجرّد أنك تتخيّلها حقيقة تحدث أمامك، فلم يترك النظام طريقةً أو أسلوباً لقهر السوريين إلا اتبعه إلى آخر المطاف:

 "منذ الأيام الأولى غابت المفاضلة بين أن يُعتقَل متظاهر أو أن يُقتَل، هكذا أعلنت جثث المعتقلين التي على أهلها أن يوافقوا ويقرُّوا ويوقّعوا بأنّ وفاة أبنائهم كانت طبيعية وليست نتيجة سلخ الجلود، أو بتر الأعضاء وفقء العيون في المعتقل"

" ففي ذلك المذبح يضيع الكلُّ في الجزء، والجزء في الكلّ، تصبح أعمار الأوقات بعمر الأزل، الوقت يقتل الحواس، حاسة اللمس تصبح أداة بيد القاتل تتآمر معه على الضحيّة، تشاركه صنع الألم وتمنحه القوة ليجعل من كل مسامة مساحة بالكاد تصل صرخة الوجع لأطرافها"

بداية التقهقر في مسيرة الثورة:

لم تكن النهاية التي وصلت إليها الثورة بغريبة ولا مفاجئة، نظراً للكم الهائل من الخذلان الذي واجهته من المحيط العربي والإقليمي والدولي الذي عمل على تنفيذ مصالحه على حساب الدم السوري، فتبنّى لذلك شخصيّات جاهلة لم تكن عسكرية من قبل، فجعل منها قادة ألوية وفيالق، ثم على الطرف الآخر تبنّى شخصيات سياسية بعيدة في غالبها عن همِّ الشعب السوري وثورته، تعيش خارج البلد منذ عقود، فكان هذان الجناحان يملكان استعداداً كبيراً لبيع كل شيء مقابل الدولار، فكانت النتيجة أن ضاع البلد، وتقهقرت الثورة:

"ما يقلقني هو الطريقة التي تحدّث معي بها بالأمس، هو ليس الذي أعرفه، كان شخصاً مكسوراً، الهزيمة وصلت إلى روحه، فالهزيمة ليس أن تخسر معركة ولا حتى حرباً، الهزيمة أن يتملّكك الشعور بها.. وتسيطر عليك حالة العجز والقهر وفقدان التوازن وإضاعة البوصلة، ألمح لي عن خيانات يدفع ثمنها عناصر يلتهمهم الموت من دون أن يعلموا أن دماءهم جزء من مسرحيات لتمرير صفقات البيع والشراء... وعن اختراع معارك بعيداً عن رأس النظام والمناطق التي يمكن أن تهزه... عن قطع الإمدادات والمتاجرة بالغنائم، بدا ناقماً على كل شيء"

التغريبة ورحلة اللجوء:

تنتهي الرواية بوصف حالة النكوص والتقهقر في مسيرة الثورة بخروج أهل المناطق المحاصرة، فمنهم من خرج هائماً على وجهه، ومنهم من خرج بتسويات أمّنت له حافلة يخرج بها إلى منفاه، في مشهد سريالي يقطّع القلب وجعاً وألماً على ما انتهى إليه مصير السوريين الثائرين على النظام وحلفائه الطائفيين من لبنايين وغيرهم:
"من هنا مر لبنانيون هرباً من حرب 2006 .. لكن المشهد الآن أكثر سُريالية، فها هم السوريون يلتهمون الطريق للوصول إلى لبنان نفسه هرباً من لبنانيين يرفعون راياتهم الصفراء"

إن رواية "الموتى يلقون النكات" للكاتب السوري حسين علي الزعبي رواية ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، عكست آلام السوريين وترجمته ترجمة أمينة، تجعل القارئ يعيشها بكل تفاصيلها، وأعتقد أن هذه الرواية ستكون من الأعمال الروائية البارزة التي ستحمل الوجع السوري بين طياتها لتنقله بأمانة إلى الأجيال القادمة، علّها تكون هي وغيرها من الأعمال، وثيقة تاريخية صادقة لما عاشه أجدادهم وما عانوه وما قدّموه من أجل الحرية والكرامة التي يتنعّمون بها هم الآن.

التعليقات (1)

    اذ

    ·منذ 8 أشهر 4 أيام
    اذا الكاتب نفسه ترك أسرته وشردها ببلاد الغربة وهرب مع عشيقته التي تدعى نايا
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات