مع خيوط الفجر الأولى من كل صباح، ينطلق أبو طارق بسيارته (البورتو) رفقة زوجته وبناته من مخيمه في منطقة الدانا شمال إدلب إلى النصف الثاني من الشمال، وهي منطقة جنديرس لإحضار(شحالة) الزيتون.
ويروي أبو طارق لأورينت عن رحتله اليومية قائلاً: "نتفق مع صاحب الأرض التي تُكسح على شراء (الشحالة) ونحن من يحمل أغصان الزيتون الصغيرة فقط والأفرع، بينما الأغصان الكبيرة يعزلها صاحب الأرض ويبيعها بأثمان مرتفعة، نشتري الحمل بحدود 250 ليرة تركية وإذا أضفنا أجرتنا وأجرة السيارة وانتظارنا الطويل على المعبر لزاد ثمنها عن 800 ليرة، وهذه الأعواد التي تبقى بعد أن تأكل الأغنام أوراقها تحترق سريعاً وفائدتها للتدفئة قليلة، نارها قش كما يقال ولكن نستفيد منها في موقد الحطب (التفية) أوصِلية مدفأة الحطب".
وعن الصعوبات التي يواجهها خلال عبوره مناطق سيطرة الفصائل مختلفة، تنهّد أبو طلال وهو يقضم حواف سيكارته الملفوفة وأشعلها بعد أن حشرها في مشربه الأسود وسحب سحبة طويلة ثم تابع حديثه:
"نذهب في الصباح الباكر تجنباً للازدحام، ولكن المشكلة في العودة والوقوف على طوابير التفتيش التي تستغرق وقتاً طويلاً، واليوم تعرضت لموقف أحزنني جداً، فقد ربطت (بيدونة) الماء على الباب الخلفي للسيارة حتى لا تنكسر جراء التحميل فوقها، وبعد طول انتظار على المعبر وصل دوري للتفتيش، طلب مني العسكري النزول وإعطاءه مفاتيح السيارة كما طلب من عائلتي أيضاً الابتعاد وأخذ مفتاح السيارة وأدخلها فسحة جانبية للحجز رافضاً تبيان سبب الحجز رغم طلبي المتكرر، وبعد انتظار ما يزيد عن الساعة ونصف عدت إليه مناشداً عن السبب، فأنا لست مخالفاً للتعليمات ولا أحمل ممنوعات، نظر إليّ بغضب وقال: ألا تخجل من تهريب المازوت وأنت (شايب)، قلت له أنا لم أهرب فقال وتلك البيدونة المعلقة على باب السيارة؟".
"عندها طلبت من ابني إحضارها ورفعتها إلى فمي ورحت أشرب منها والماء يتدفق على وجهي وثيابي وسط ذهول المفتش وأصحاب السيارات المحجوزة".
في الوقت التي تتساقط القنابل العنقودية على مخيمات الشمال وتحصد أرواح العشرات، نذر البرد هبّت متأخرة هذا الموسم متزامنة مع هطول الأمطار التي عمت مناطق المخيمات والتي زادت من حيرة النازحين حول وسيلة التدفئة التي سيستخدمونها خلال موسم البرد بعد أن ارتفعت أسعار مواد التدفئة كلها إن لم نقل إنها تضاعفت!.
البطانيات والحطب
أبو راسم (66 عاماً) نازح من غربي معرة النعمان إلى مخيمات سرمدا، زرناه في المخيم واستمعنا إليه على وقع حبات المطر المتساقط على سطح خيمته وسألناه عن استعدادته للشتاء.
وقال أبو راسم: "بعد أن استبعدنا المازوت والقشر من حساباتنا لعجزنا عن شرائها، لأننا بالأساس لم نستطع شراءها السنة الماضية وكانت بنصف ثمن هذا العام، لذلك توجهنا إلى البحث عن البدائل وكان توجهنا نحو الجبل القريب، نجمع منه الأعواد الصغيرة ونحفر في الأرض بحثاً عن جذور النباتات مثل الشفلح والخرفيش، ونضعه كما تراه في هذا الكيس الأبيض (الصورة)، ذهبنا على (الموتور) بعد انتظاري لمدة ساعة على الكازية من أجل تعبئة بنزين بعشرين ليرة فقط، أي أقل من ليتر واحد وإن أردت أن تشتريه من السوق الحرة فعليك دفع ضعف الثمن".
وبيّن أبو تيسير أن كيلو حطب الأعواد يبلغ أربع ليرات، "لذلك سنعتمد على الحرامات في التدفئة إن نفذ ما جمعناه"، عندها تدخلت أم راسم في الحديث قائلة: "نحن كبار ونتحمل البرد ونضع فوقنا الحرامات ولكن من عنده طفل صغير كيف له تدبّر أموره حتى إن الغاز مقطوع والناس توجهت رغماً عنها نحو استخدام مواقد الحطب (التفية) للطبخ".
بدوره، قال عبد الله وهو بائع للحطب على طريق سرمدا الدانا، إن "الأسعار ارتفعت هذه السنة كثيراً عن سابقاتها رغم أن البرد لم يشتدّ بعد، حيث وصل سعر الطن لقرم الزيتون 220 دولار مما جعل الناس يحجمون عن الشراء وبعد أن كنا نبيع بالطن ونصف الطن صرنا نبيع بمضاعفات الكغ".
قشور الفستق واللوز
ليس بعيداً عن عبد الله يجلس حسن على كرسي صغير أمام محله المفتوح من كل الجهات ومن حوله أكياس قشور الفستق والبندق واللوز والجوز، وأجوبته طابقت كلام أبي عبد الله حول الغلاء وضعف القوة الشرائية عند الناس بعد أن بلغ سعر الكغ 270 دولاراً، وتوقّع أن يرتفع إلى أكثر من 300 دولار بعد اشتداد البرد وزيادة الطلب، وعزا عبد الله هذا الارتفاع الكبير في سعر القشر إلى الأزمات العالمية والحروب، وفي أحد الزوايا وضع عبد الله أكياس البيرين البيضاء فوق بعضها وبجانبها أكياس مفتوحة فيها حبيبات البيرين التي يتراوح سعرها بين 200 إلى 220 دولاراً.
أطفال كثر من أهل المخيمات ينتشرون خلال فصل الصيف في الشوراع الرئيسية لمدن الشمال، يحملون أكياسهم على أكتافهم يجمعون ما تصل إليه أيديهم من قطع بلاستيكية أو كرتون أو نايلون والأحذية القديمة وحتى روث الحيوانات ويخزنونها جوار خيامهم كبدائل للمازوت الذي بلغ سعر البرميل المكرر منه 140 دولاراً، وليصل برميل الأوروبي إلى 190 دولاراً.
ما يسميه الناس هنا مدافئ الفستق التي ظهرت قبل سنوات قليلة في ريف حماة الشمالي حيث موطن الفستق الحلبي، تصطف جوار بعضها البعض في صفوف طويلة تبرق تحت أشعة الشمس وتنتظر من يشتريها بعد عزوف الناس عن شرائها بعد غلاء القشر.
فوط الأطفال للتدفئة
على ذات الطريق انتشرت عدة محلات رُصف أمام أبوابها عدد من بالات الألبسة المستعملة والأحذية القديمة وهم ينتظرون الفقراء من أهل المخيمات ليشتروها مكرهين لما لها من آثار ضارة عديدة عدا عن الضرر الصحي مثل الحرائق التي التهمت في السنة الماضية العديد من الخيم وراح ضحيتها عدد من الأشخاص.
في الجهة الشمالية من مدينة الدانا وقرب بلدة ترمانين افتُتح محل لبيع (الحفوضات) بغية التدفئة، وقال لنا البائع إنها عمليّة ورخيصة ولكنها تسبب انسداد البواري، لذلك ينبغي تنظيفها كل صباح، ناهيك عن بعض الروائح.
أغلب النازحين يعتمدون في تدفئة خيمهم على قطع النايلون والبلاستيك والكرتون مما جمعه أبناؤهم خلال فصل الصيف رغم معاناتهم من الرائحة الناتجة عن الحرق وتلوث الجو والمعاناة من ضيق التنفس وخاصة لمرضى الربو، وخاصة في ساعات المساء عندما تتضافر كل المداخن وتحبك غيمة سوداء تحجب التنفس مع الرؤيا.
وتبقى الحيرة يخالطها الخوف والحذر من شتاء يقف على أبواب خيام لا تقوى مع ساكنيها على تحمّل لياليه الطويلة والباردة.
التعليقات (0)