لأنّ الشعوب على دين ملوكها تفشل الثورات

لأنّ الشعوب على دين ملوكها تفشل الثورات

تُعد السلطة ضرورة لأي مجتمع إنساني، إذ يَفترض العيش المشترك حدّاً أدنى من الوفاق بين مكونات المجتمع يؤدي إلى ازدهار تتحقق من خلاله المصلحة المشتركة لتلك المكونات. ويتجسد الوفاق بشكل من أشكال التنظيم السياسي الذي لا يمكن للمجتمع أن يستمر بدونه، فالإنسان ليس حيواناً اجتماعياً ومفكراً فحسب، إنما لديه، على حد تعبير كانط "مزاج لا اجتماعي يدفعه إلى الرغبة في توجيه كل شيء على هواه". وتأتي من هنا ضرورة وجود السلطة الكفيلة بضبط سلوك الفرد.

حتى أنظمة الاستبداد تبحث عن الشرعية

وعند الحديث عن السلطة لا بد أن يتبادر للذهن فكرة الشرعية، فالدولة في النهاية ليست سوى كيان سياسي يمارس السلطة عن طريق استخدام القوة المشرعة، إذ لا تتوقف السلطة على استخدام القوة فحسب، بل وعلى شرعيتها. فحتى السلطة الاستبدادية -رغم أنها تنشأ غالباً نتيجة الاستيلاء القسري على السلطة متسلّحة بمنطق الجبروت والغلبة- إلا أنها تسعى بشكل من الأشكال لإضفاء نوع من الشرعية المصطنعة على حكمها لتسويغ استبدادها، وتتراوح تلك المسوّغات بين الدِّين ومقارعة المستعمر ومواجهة الأخطار الخارجية، وغيرها من المسوّغات الواهية. إلا أن أشد ما تفخر به أنظمة الاستبداد وتعتقد أنه كافٍ لأن يكون مصدراً للشرعية هو ما يطلقون عليه الأمن والأمان الذي توفّره السلطة.

إفساد المجتمع ضرورة

من أجل أن يكون الأمن حاجة ملحّة وفقدانه أمراً مرعباً؛ لا بد من تذكير الناس أنهم أناس أشرار، أو على الأقل أن فيهم الكثير من الأشرار. من هنا تبدو حاجة الأنظمة المستبدة لإفساد المجتمع ضرورة لا بد منها، ليبقى الكل خائفاً من الكل. وبالتالي، يصبح الخوف من انهيار السلطة أو فقدانها شعوراً يراود الكل. وفي الآونة الأخيرة ازدادت حاجة أنظمة الاستبداد لصبغ مجتمعاتها بصبغة الجهل والتخلف بعد أن أصبحت تتعرض لضغوط متزايدة لإجراء بعض الإصلاحات ذات الصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فمن أجل التملّص من وطأة تلك الضغوط؛ تكون الحُجّة دائماً: شعبنا متخلف لا يمكنه استيعاب الإصلاحات السياسية.

فوضى تجعل الاستبداد مطلباً شعبياً

من هنا يلاحظ الكثير من المراقبين أن أغلب الشعوب التي رزحت طويلاً تحت نِير السلطة المستبدة؛ عندما تثور لإسقاط أنظمة الاستبداد تنحو إلى إنتاج نوع مشابه من السلطة، إن لم يكن نسخة طبق الأصل بشخوص مختلفة. وهكذا، فالجهل والتخلّف الموروث عن نظام الاستبداد يخلق في البداية الحالة الوحيدة التي هي أسوأ من الحكم الاستبدادي. أي: الفوضى التي يتقبلها الجمهور بداية على أنها بوادر الحرية، إلا أنها لا تلبث أن تتصاعد إلى أن تحيل حياة المجتمعات إلى جحيم لا يطاق، حيث يرتفع معدل الجريمة، وينتشر التقصير والإهمال والفظاظة، وهو ما يعد تمهيداً لصعود مستبد آخر يستمد شرعيته هذه المرة من الشعب. الشعب الذي ضاق ذرعاً بالفوضى وأصبح على استعداد لتنصيب مستبد مطلق الصلاحيات في سبيل الخلاص. وهكذا، تبدو التضحيات التي قُدمت في سبيل الخلاص من نظام الاستبداد مجرد هدر للأرواح والدماء والآلام، بل هي مجرد شرعنة لنظام الاستبداد بحلته الجديدة.

الناس على دين ملوكهم

تلك الحالة تجعل مقولة "كما تكونوا يولّى عليكم" تبدو صحيحة، بل يستحضرها الكثيرون على أنها حقيقة مطلقة رغم أنها مجرد مغالطة تهدف إلى تبرئة ساحة المستبد وإلقاء مسؤولية الجهل والتخلف على كاهل الشعوب. إن قصص النجاح التي تُنسب لبعض الأنظمة السياسية التي أحدثت نقلات نوعية في مجتمعاتها وعلى كافة المستويات، وتلك الفوارق بين شعب واحد يخضع لحكومتين منفصلتين، كالصين وتايوان مثلاً، أو كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية؛ هي أكبر برهان على أن "الناس على دين ملوكهم" وليس العكس، فللسلطة دور حاسم في تشكيل شخصية الفرد من خلال تطبيق القانون والتنشئة بشتى أشكالها. من هنا، تُعدّ أخطاء المجتمعات في إعادة إنتاج الاستبداد عرض جانبي من أعراض سياسات نظام الاستبداد المتمثلة بالقهر والإذلال والتجهيل.

الخلاص بنخب استثنائية

إذن، والحال كذلك، تبدو الشعوب التي خضعت طويلاً للحكم المستبد أمام معضلة يصعب التغلب عليها، أو كأنها في دوامة لا تستطيع الخروج منها إلا إن امتلكت مقدرة فريدة على السباحة عكس التيار، فالسياق الطبيعي لثورات الشعوب التي خضعت طويلاً لحكم نظام مستبد هو أن تعيد إنتاج الاستبداد. لذلك، تحتاج المجتمعات التي تثور في وجه حكامها متحدّية الظلم والقهر أن تتقدمها نخب استثنائية على قدر من الوعي والإرادة والرغبة الحقيقية في الوصول إلى النظام السياسي الذي تتحقق فيه الكرامة للجميع، نخبة تعتقد أن كرامة الإنسان هي المطلب الأول والأخير.

إن كرامة الإنسان لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مطلبين لا ثالث لهما: سيادة القانون، والازدهار الاقتصادي، وهذا الأخير لا يتحقق إلا من خلال الانفتاح على العالم بصدر رحب بعيداً عن الشعارات الشعبوية التي تتفنّن باختلاق الأعداء.

التعليقات (1)

    عبد الغني محمود

    ·منذ سنة 4 أشهر
    رائع أستاذ مصطفى!! لكن بالنهاية واضح أن طريق خلاصنا طويل..... أكثر من لسان كثير ممن يعتبرون أنفسهم نخب ولا يملون من الكلام الفارغ ليل نهار،ومعوّج كطريقة فهمهم وأداءهم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات