وسائل التواصل الاجتماعي وتشظّي المشاعر

وسائل التواصل الاجتماعي وتشظّي المشاعر

منذ وُجد الإنسان على وجه الأرض وُجدت معه حاجته للتواصل مع أبناء جلدته، وبدأ بالبحث عن طريقة يعبّر بها عن نفسه وعن احتياجاته، فتدرّج من الرسم على جدران الكهوف إلى إصدار الأصوات ثم اهتدى إلى اللغة وتلاها فيما بعد اختراع الكتابة.

وقد تطورت حاجة الإنسان للتواصل من مجرد التعبير عن الألم والخوف والفرح وغيرها من المشاعر البدائية، إلى تدوين التاريخ وسنّ القوانين وتأليف الشعر والأغاني وإنتاج الفنون بكافة أشكالها، إلى حاجات أعمق وأعقد مثل الحاجة إلى الانتماء والمعرفة والنجاح وتقدير الذات وتحقيقها.

ويُعدّ الاتصال الإنساني ضرورة إنسانية لتماسك الأفراد والجماعات ويتمثل في القدرة على مشاركة الآخرين خبراتهم وأفكارهم، وله عدة وظائف منها الاجتماعية؛ فالاتصال أداة فعالة في تكوين العلاقات الإنسانية عن طريق تسهيل تبادل المعلومات بين الناس فهو عملية ديناميكية تتسم بالحركة المستمرة والدائرية حيث يشترك الناس جميعاً في الاتصال ضمن نسق دائري فيه تأثير وتأثر يعتمد على استجابات المرسِل والمستقبِل.

كما إن للاتصال أنواعاً عدة كالذاتي الذي يتم بين الفرد وذاته، والشخصي الذي يتم بين الأشخاص وجهاً لوجه، والجماهيري وهو اتصال منظّم ومدروس موجّه إلى جمهور عريض من الناس بقصد التأثير على معلوماتهم وسلوكهم عن طريق رسائل علنية تنقلها وسائل الاتصال الجماهيري السمعية والبصرية.

ولقد تطوّرت وسائل وأساليب التواصل والاتصال عبر الزمن منذ إطلاق أول قمر اصطناعي سوفيتي (سبوتنيك 1) عام 1957 مروراً بالإنترنت الذي أصبح متاحاً للاستخدام المنزلي عام 1958 وما لحقه من تسارع في شكل التواصل بين المجتمعات البشرية على المستوى العالمي كالبريد الإلكتروني والمواقع والمنتديات على الشبكة العنكبوتية وصولاً إلى ما اصطُلح على تسميتها "وسائل التواصل الاجتماعي".

الهجرة إلى العالم الافتراضي

ربما تكون أول غرفة دردشة على الإنترنت هي Talkomatic التي ظهرت مع بدايات عام 1973 وقد تفرعت عن نظام Plato والذي تم إطلاقه عام 1960 وتم تطويره في جامعة إلينوي، وفي منتصف التسعينات من القرن الماضي وعندما تمت إضافة الشبكة العنكبوتية العالمية إلى الإنترنت، انتقلت منتديات الرسائل والتي تعد بنية أولية من وسائل التواصل الاجتماعي إلى الشبكة وصارت تدعى "منتديات الإنترنت".

ومنذ ذلك التاريخ عمل العديد من المطوِّرين وشركات التكنولوجيا على خلق منصات للتواصل بين الناس افتراضياً، وقد لاقت رواجاً كبيراً فهي ببساطة أرخص ومتاحة بيسر، وكان من أشهرها وأكثرها استخداماً: الـ "ياهوو ماسنجر"، والـ "إم إس إن ماسنجر"، والـ "ماي سبيس"، حتى قام شاب يدعى مارك زوكربيرغ بإنشاء ما يسمى اليوم الـ "فيسبوك".

من طالب عادي إلى قرش عالمي

مَن منّا لم يتابع فيلم The Social Network "الشبكة الاجتماعية" حيث جسّد الممثل جيسّي آيزينبرغ شخصية طالب جامعي يدرس في قسم علوم الحاسوب في جامعة هارفرد ويدعى "مارك زوكربيرغ" والذي أنشأ موقعاً مقتصراً على طلبة الجامعة رفع عليه صوراً لبعض الطالبات على شكل ثنائيات مع إتاحة الفرصة للطلبة الذكور باختيار الأكثر جاذبية بين كل طالبتين، وسَمّى هذا الموقع "Facemash"، وكان ذلك عام 2003.

بعدها، وفي بداية 2004، تطورت الفكرة إلى شبكة تواصل داخلي بين طلبة الجامعة، ومن ثم توسعت لتشمل جامعات أخرى مثل ستانفورد وكولومبيا وييل تحت اسم "Thefacebook.com"، ثم أصبح متاحاً بالتدريج أمام الجامعات جميعها في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وفي عام 2005 اشترت الشركة اسم النطاق "facebook.com" وفي العام نفسه أصدر فيسبوك نسخة للمدارس الثانوية، ثم وفي عام 2006 فتح الموقع أبوابه أمام جميع البالغين من العمر 13 عاماً كحد أدنى ولديهم عنوان بريد إلكتروني مفعّل.

ومع التوسّع المطّرد لشركة الفيسبوك أصبح "زوكربيرغ" وهو في عمر الـ 23 أصغر ملياردير في العالم، وحتى أكتوبر 2022، بلغت ثروته الصافية 47.3 مليار دولار، ما يجعله في المرتبة 25 بين أغنى أغنياء العالم. إضافة إلى أن مجلة تايم قد صنفته منذ عام 2008 ضمن قائمة الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في العالم وقد فاز بجائزة "شخصية العام" سنة 2010 والتي تنظمها المجلة ذاتها سنوياً.

"أعجبني" فقط لا تكفي

بما أن الفيسبوك هو موقع يساعد على تكوين علاقات بين المستخدمين يمكّنهم من نشر المعلومات والملفات والصور الشخصية ومقاطع الفيديو والتعليقات والاطّلاع على ما ينشره الآخرون، فقد أصبح منبراً افتراضياً للتعبير والتواصل بين الناس، حيث بلغ عدد مستخدميه عام 2021 أكثر من 2.85 مليار مستخدم نَشِط، فقد وجدت شركة الفيسبوك أن الكثير من الأشخاص لا يحبذون كتابة التعليقات أو ربما لا يجدون الوقت الكافي لذلك، فأضافت زر "أعجبني" عام 2009، لتسهيل التفاعل مع المنشورات والتعليقات والصور وغيرها التي يشاركها الأصدقاء على "جدرانهم"، لكن، وبعد الأخذ بعين الاعتبار تنوّع المشاعر الإنسانية، وأنها لا تنحصر بمسألة "الإعجاب" وحسب، أضيفت خمسة أزرار في عام 2016 وهي: "أحببته"، "أضحكني"، "أدهشني"، "أحزنني"، "أغضبني"، ثم وفي عام 2020 وخلال جائحة كوفيد-19، أُضيف زر "أدعمه".

لكن ما لم يؤخذ في الحسبان هو تحجيم التفاعل بستة مشاعر معدّة مسبقاً، فاكتفى الإنسان بالتعبير عما يتابعه على وسائل التواصل باستخدام التفاعلات وحسب، بعد أن كان يذهب بنفسه إلى صالات الأعراس ليشارك أقرانه فرحتهم، أو يتجول في السوق محتاراً حول الهدية الأنسب لعيد ميلاد أحد أصدقائه، أو الانضمام لمجلس عزاء ومساندة أهل الفقيد ليتجاوزوا محنتهم، إذ انتقلت هذه الطريقة في التواصل إلى العالم الافتراضي، فصرنا نعبّر عن تعاطفنا بكتابة التعليقات والمنشورات ومشاركتها على "حوائطنا"، ثم ما لبثت هذه الطريقة أيضاً بالتلاشي يوماً بعد يوم لتحلّ محلها التفاعلات.

دلوٌ بارد.. دلوٌ ساخن

منذ أن قام المطوّرون في فيسبوك بطرح ميزة آخر الأخبار "News Feed" صار المستخدم يتنقّل بين ما ينشره الأهل والأصدقاء والمواقع الإخبارية بسهولة ويسر فيعرف ما يجري حوله في العالم بلمسة من إصبعه.

هنا يقرأ خبراً عن ولادة أول حفيد في العائلة، فيضغط على "أحببته" ويكتب تبريكاته في تعليق وينتظر رد الأهل ليتفاعل معه أيضاً، ثم يصادف خبر انفصال أعز أصدقائه عن زوجته، فيتفاعل بـ "أدعمه" ويكتب له تعليقاً داعماً، يلحق هذين المنشورين خبر صاعق عن وفاة أحد شباب العائلة، فيستفسر عن السبب وعندما يحصل على الإجابة يتفاعل بـ "أحزنني" ويترك تعزيته في سطور.

فيديو مضحك، صور لمظاهرات، خطابات عنصرية، مشاهد دمار وتهجير، إعلانات لرحلات سياحية، صور موائد عامرة، مخيمات غارقة، وغيرها من المنشورات التي تتوالى خلف بعضها مشكّلة معرضاً سريالياً، ما على الإنسان سوى التجول بين لوحاته الغرائبية والتفاعل معها بما يتناسب مع المشاعر التي تفرضها في ثوانٍ معدودة.

هذا الانتقال السريع بين ما هو مُفرح ومثير للسخط يعقبه إحساس بالحزن يقود الإنسان إلى حالة من تشظي المشاعر فيتخبّط بينها ولا يعرف هل عليه أن يكون سعيداً الآن أم غاضباً أم حزيناً، حيث إن كلاً من هذه الأحاسيس تحتاج وقتاً كافياً لاستيعابها والتعامل معها ثم تجاوزها، وهو وقت لا تسمح به وسائل التواصل في عالم افتراضي يتغير بين طرفة عين وأخرى.

مغالبة التبلّد

لا نستطيع أن ننكر أهمية وسائل التواصل الاجتماعي فقد قرّبت البعيد وقصّرت المسافات وسهّلت التواصل بين البشر، كما إنها تلعب دوراً في نقل الأخبار وتشكيل حركات فارقة في حياة الشعوب، وتُعتبر منبراً للكثيرين تساعدهم على إيصال وجهات نظرهم إلى أكبر عدد ممكن من الناس.

لكنها بالمقابل أدت إلى تبلّد المشاعر عند العديد من الأشخاص فأصبحوا يتفاعلون فيما بينهم بطريقة آلية خالية من التعاطف.

وللتغلب على هذا، نحن مطالَبون بالابتعاد قليلاً عن الشاشات والعودة للتواصل مع ذواتنا الداخلية بالدرجة الأولى ومع الآخرين بالدرجة الثانية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات