حين سال لعاب نصر الله من أجل غاز المتوسط

حين سال لعاب نصر الله من أجل غاز المتوسط

بعد زهاء عقد من المفاوضات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، تم التوصل أخيراً إلى اتفاق اعتبره الكثيرون "تاريخياً"؛ وقد يفتح الطريق نحو سلام دائم في المنطقة. لكن في الحقيقة، لم يهتم المشاركون بالخلافات والمشاكل والتناقضات المتراكمة، ولا بالحدود البحرية نفسها، بقدر ما سال لعابهم الغزير نحو أجزاء معينة من قاع شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث من المفروض أن توجد مكامن غازية ضخمة.. من جهتها، تود إسرائيل تنمية مواردها البحرية بهدوء ودون مخاطر إضافية، بينما يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة، ويمكن للموارد المحتملة أن تبقي اقتصاده واقفاً على قدميه بطريقة أو بأخرى.

الموقف الإسرائيلي

عارض رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية الانتقالية يائير لابيد الأمر في البداية، لكنه ما لبث أن غير رأيه، قائلاً: "مشروع الاتفاق يتسق تماماً مع المبادئ التي قدمتها إسرائيل، سواء في مجال الأمن أو في مجال الاقتصاد"، "هذا إنجاز تاريخي من شأنه أن يعزز أمن إسرائيل ويجلب المليارات إلى اقتصادها ويضمن الاستقرار على الحدود الشمالية". كذلك فعل وزير الدفاع بيني غانتس عندما قيمه بشكل إيجابي: "الاتفاق عادل ومفيد لكلا الجانبين، وإسرائيل تريد جاراً لبنانياً مستقراً ومزدهراً". بينما استقبل رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو الصفقة ببرود واتهم الحكومة المؤقتة بإعطاء اللبنانيين الخائفين من "حزب الله" الأراضي البحرية الإسرائيلية بما فيها من ثروات: "لقد استسلم يائير لابيد بشكل مخجل لتهديدات نصر الله. ومنح حزب الله أراضي إسرائيل ذات السيادة مع حقل غاز ضخم يخص مواطنيها.. إنه يفعل ذلك دون مناقشة في الكنيست ودون استفتاء.. إذا تم اتخاذ هذا القرار غير القانوني، فلن يلزمنا بأي شكل من الأشكال". 

ومع ذلك، يعتقد المحللون الأمريكيون أن نتنياهو لن يكون قادراً على إلغاء الصفقة بالكامل إذا وصل مرة أخرى لرأس الحكومة. فبعد الانتهاء من استثمار حقول الغاز المتوسطية، سيعزز الاتفاق مكانة إسرائيل كقوة طاقة جديدة في المنطقة بعد أن طورت العديد منها على مدى العقد الماضي. وستكون قادرة على تزويد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز، ما يقلل من اعتمادها على روسيا. 

الموقف اللبناني

أما بالنسبة للبنان فالاتفاق مصيري على ما يبدو، لأن البلاد على وشك الانهيار بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها. 

وافق الرئيس اللبناني ميشال عون على الاتفاق ووصفه بـ "الإنجاز التاريخي" وشدد على أن لبنان "لم يتخلّ عن كيلومتر واحد من أراضيه، ولن يدفع لإسرائيل مقابل استخدام جزء من حقل قانا". وأضاف بأن: "المعاهدة ستمنح لبنان الاستقرار الإقليمي الذي يحتاجه"، وأنها "لا تعني أي تطبيع مع إسرائيل"، وأن "لبنان لم يضطر إلى تقديم أي تنازلات"... في حين أشار رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى أن الاتفاق عموماً "يلبي متطلبات البلاد"، وهو الذي أشرف على إدارة هذا الملف سابقاً بتوكيل من "حزب الله". وأعرب نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إلياس بو صعب عن ارتياحه لنص الاتفاق.  

من الطبيعي أن يأمل اللبنانيون خيراً في الاتفاق الجديد، بحيث يسمح لبلدهم بالخروج من عنق أزمته الخانقة. لكن المشكلة تكمن في غياب الرئيس والحكومة والبرلمان، والدولة فاشلة مفلسة شبه منهارة ولا تملك الموارد اللازمة لتطوير حقولها، ولا البنية التحتية الضرورية لاستخراج الغاز وتسويقه، ومن غير المعروف كم من الوقت يجب الانتظار حتى يتحسن الوضع.. قد يحدث ذلك في غضون عام أو ثلاثة أو ربما حتى خمس سنوات، لأنه لم يتم إجراء حفر استكشافي هناك، ولا تزال آفاق حقل قانا غير واضحة تماماً... ثم، ماذا لو سُرق كل شيء في النهاية؟! 

يقول الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتاين: "إن الصراخ حول مليارات الغاز الممنوحة للبنان لا أساس لها من الصحة على الإطلاق، حيث لا أحد يعرف حتى الآن ما هي احتياطيات الغاز في حقل قانا، وما إذا كان هناك غاز على الإطلاق". 

حيثيات ترسيم الحدود البحرية

تنازعت لبنان وإسرائيل على جرف بحري شرق الأبيض المتوسط تبلغ مساحته 856 كيلومتراً مربعاً، ويقع عند تقاطع حقلي "قانا" و"كاريش" للغاز، حيث حاول كل طرف ضمه إلى منطقته الاقتصادية الخالصة.. 

يعد هذا الاتفاق هو الأول بين إسرائيل ولبنان منذ بداية حرب عام 1982. ورغم أن المفاوضات جرت في جو من السرية وبصمت تام من وسائل الإعلام، وأن الطرفين لم يتفاوضا وجهاً لوجه وإنما عبر الوسيط الأمريكي، إلا أن المفاوضات بينهما ليست وليدة اليوم، وإنما تعود إلى  12 عاماً تقريباً. لكنها تعقدت أكثر من مرة بسبب حقيقة أن البلدين ما زالا بحكم القانون في حالة حرب منذ عام 1948، ولا توجد علاقات دبلوماسية بينهما، ولا تزال هناك وحدات وناقلات جنود مدرعة تابعة لقوات حفظ السلام الأممية على حدوديهما... 

استؤنفت المفاوضات عدة مرات منذ عام 2010، ولكن في كل مرة وصل الطرفان إلى طريق مسدود. وفي حزيران من هذا العام حدث التغير عندما تناولت الولايات المتحدة هذه المسألة مرة أخرى، وبعد عدة جولات من المفاوضات توصلت إلى نسختها الخاصة من أجل حل الصراع بين الطرفين: حصلت إسرائيل على الحق في إنتاج الغاز من حقل كاريش، ولبنان من حقل قانا المجاور. مع بعض التعويضات هنا وهناك.. 

موافقة حزب الغاز اللبناني

أخيراً سقط "قناع المقاومة" عن وجه "حزب الله" الشيعي الموالي كلياً لإيران، ليرتدي مباشرة "قناع الغاز"؛ ويوافق على شروط اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع "عدوه الأول والأخير" إسرائيل؛ حيث أرغد وأزبد طوال عقود حول مقاومته وقتاله المستميت ضدها، وصرح إعلامه المتعالي بزيفه: "لقد أخضع حزب الله إسرائيل، وجعلها تجثو على ركبتيها"!

تحول هذا الحزب مع الوقت إلى دويلة فاشية شبه عسكرية لديها خدماتها الخاصة وجيشها وصواريخها ومسيّراتها وأنظمة دفاعها الجوي. وقد اكتسبت سلطة واسعة في لبنان بعد ما سمي بـ "حرب يوليو 2006"، معتبرة نفسها قد صدت العدوان الإسرائيلي بنجاح رغم تدميره لنصف لبنان حينها!

يعتقد الأميركيون أنه في حال التوصل إلى اتفاق يرضي لبنان، فلن يكون لدى الحزب أي سبب لمعاداة إسرائيل. لذلك مارست الولايات المتحدة ضغوطاً قوية على حكومة تل أبيب لتوقيع هذا الاتفاق المشكوك في نجاحه والذي لم تنشر بعد بنوده... وقد ساقت أمر "اقتراب ولاية ميشال عون الرئاسية من نهايتها" كحجة؛ لأن هذا الأخير يحظى بدعم "حزب الله"، وأي قرار تتخذه حكومته لن يدخل حيز التنفيذ دون موافقة الحزب؛ ومن هنا سيكون من المستحيل ضمنياً إبرام مثل هذا الاتفاق في المستقبل، وقد تفوت مثل هذه الفرصة التاريخية بعد رحيله.. كذلك من المتوقع أن يكون توقيعه على الاتفاق الغازي هو آخر مهمة له كرئيس هلامي جاهل وقصير النظر... وهذا بالفعل ما حصل! 

لكن، لا يتفق الكثيرون مع هذا الرأي، ولا أحد يعرف كيف سيتصرف الحزب في المستقبل، لأن الخلافات "الغازية" جديدة، ولا يزيد عمرها عن عشر سنوات.. إضافة إلى أنه يستطيع دائماً اتهام وتهديد إسرائيل بعدم الامتثال للمعاهدة وبدء الأعمال القتالية، رغم أن أبناء العم سام قد أخذوا في الحسبان مصالحه المالية.

خطابات حماسية لاستهلاك الرعاع 

أخذت شعبية "حزب الله" بالانخفاض بين اللبنانيين مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية. فبينما عانى الناس من التضخم المتزايد، ونقص المياه والكهرباء ومشتقات النفط وأبسط مستلزمات الحياة، تحدث حسن زميرة عن الجواسيس الإسرائيليين والمؤامرات والخطط الدولية لتدمير لبنان... هو لا يساعد البلاد على الخروج من الأزمة الاقتصادية فحسب، وإنما يعيق كل شيء أيضاً، بما في ذلك عرقلة اتفاقية الغاز ومفاوضات ترسيم الحدود البحرية. لقد حاول نصر الله مراراً وتكراراً لفت الانتباه إلى نفسه، دون أن يتردد في التهديد باستخدام القوة. فبعد كل خلاف في المفاوضات، حتى لو كان صغيراً، سارع على الفور إلى القول بأن "حزب الله" وحده هو القادر على حماية لبنان منها. كذلك أدت تصريحاته الصاخبة في الصيف الماضي، إلى دفع لبنان إلى حافة الهاوية.. هدد إسرائيل في 3 يوليو 2022 وأطلق مسيراته الإيرانية باتجاه الأراضي المتنازع عليها، وفي أغسطس منح مهلة نهائية حتى منتصف سبتمبر لحل جميع القضايا. وصرح أنه مستعد لشن ضربات صاروخية مباشرة على جميع منصات الغاز الإسرائيلية، وأنه تم إبلاغ جميع الشركات الأجنبية التي تعمل في الحقول بهذا الأمر. 

لكن كل هذه الخطابات كانت موجهة للاستهلاك الرعاعي المقاوم، ومن أجل تقوية العلاقات العامة لزيادة متعة الممانعة، لأنه هو نفسه ينظر إلى الاتفاق بشكل إيجابي إلى حد ما وهذا يكفي لمنع التصعيد. لقد صرح: "إننا في حزب الله نعتبر ما حصل من البداية إلى النهاية، إلى النتائج، هو انتصار كبير وكبير جداً للبنان للدولة وللشعب وللمقاومة، وما حصل له نتائج ودلالات مهمة جداً".

سيد الغاز والكبتاغون وكذبة المقاومة

نصر الله شخصية بدائية مأساوية مصابة بجنون العظمة الزائفة، لا تعرف كيف تجلس على طاولة المفاوضات، ولا تعرف كيف تتصرف وتناقش القضايا سلمياً.. هو يخشى باستمرار على حياته، ويعيش في مخبأ، ولا يرى أشعة الشمس، وفي الوقت نفسه يكتسب وزناً زائداً مع كل يوم.. يتحدث في كثير من الأحيان بشكل أقل مقارنة مع السنوات السابقة، وغالباً ما يتم تأجيل خطاباته. عندما يصل إلى الميكروفون، يتحدث ببطء خوفاً من أن تنتابه موجة سعال حاد قوي.. لذلك ليس من الغريب أن يطلقوا عليه لقب "جرذ الضاحية"!

ومهما يكن من أمر، فإن مساهمة نصر الله في اتفاق ترسيم الحدود واضحة؛ ولو كان هناك قائد آخر في مكانه، لكان بإمكان لبنان أن يقدم مطالب أوسع بكثير ويفرضها على إسرائيل لتقبلها صاغرة. 

قال مصدر استخباراتي رفيع المستوى من الموساد: "إذا كان هناك قائد يجب أن نصلي من أجل صحته وطول عمره ثلاث مرات في اليوم، فهو حسن نصر الله. إنه جدير بالثقة، ويلعب وفقاً للقواعد ويتمسك بوعوده"؛ طبعاً بالإضافة لآل الأسد في سورية! 

سيد الغاز ورئيس دولة الكبتاغون صادق وشَفَّاف مع أولاد عمه الإسرائيليين.. إنه يعترف بدولتهم من خلال اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهذا ربحٌ وإنجاز كبير اقتصادياً وسياسياً لهم. يستند "حزب الله" في حججه إلى أنّ توقيع اتفاقية ترسيم الحدود لا تؤدي حتماً إلى التطبيع مع إسرائيل؛ وأن المعاهدة دولية وليست اعترافاً رسمياً بالدولة العبرية... 

أجل، لقد شبعنا، وشبع الجميع في لبنان وغيره من هذا الهراء السفسطائي الاحتيالي.. لقد آن الأوان للاعتراف بأن هذا الحزب بكل مكوناته وأفكاره وقواعده هو مجرد عصابة طائفية رديفة، مثلها مثل العصابة الأسدية الموجود في سورية، ولا تخدم سوى إيران. ويجب على الناس الساذجين المصدقين لها أن يقتنعوا بأنه لن يحرر القدس ولا حتى رأس الناقورة، وإنما يتاجر بقضية فلسطين!.. وأنه لن يقدم على أي شيء دون قرار من ملالي طهران، وأنه غير مهتم تماماً بفوائد الغاز للبنان، وأن مشاريعه العسكرية الأساسية ليست ضد إسرائيل وإنما لمساعدة ودعم أنظمة وأحزاب وتنظيمات وميليشيات الخراب والاستبداد وذبح الشعوب المظلومة المقهورة في لبنان، وسورية، والعراق، واليمن، وفلسطين...

أتمنى أن يقتنع الناس أخيراً بأن مقاومة حزب الله هي مجرد كذبة، كذبة كبيرة؛ تنضم إلى نسيج الكذبات الكبرى في تاريخنا.. 

إسرائيل مستعدة للاتفاق حتى مع الشيطان 

ربما يغيب عن الكثيرين أن إسرائيل لا تتفاوض مع الأنظمة العربية فحسب، وإنما مع الأحزاب والتنظيمات المسلحة كـ "حزب الله، حماس، الجهاد، فتح، القاعدة، البي كا كا..."، ومنذ فترة طويلة. لكن التفاوض في حد ذاته ليس مشكلة، فإسرائيل تعترف بهذه الجماعات وتعطيها الشرعية بحكم الأمر الواقع، لاسيما في قطاع غزة أو جنوب لبنان أو سيناء أو شمال سورية والعراق... 

لا يهم إسرائيل أن تخرج المفاوضات للعلن أو تبقى سرية، ما دامت تكسب اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً منها. فهي تفضل أن يكون هناك كيان محدد، حتى لو كان حكومي أو شبه حكومي، يمكن تحميله مسؤولية ما يحدث على أراضيه، وقادر على إخضاع الجماعات الأخرى لسلطته. 

هكذا، كانت نتيجة التفاوض مع "حزب الله" بعد حرب لبنان الثانية عام 2006، حيث تحقق هدف إسرائيل من خلال امتناعه عن الاستفزازات منذ تلك الأيام... إنه يختبئ في جحره منذ ذلك الحين؛ وقد تحول نشاط وعمل حزبه نحو الداخل السوري بعيداً عن الجبهات الإسرائيلية. 

بعد توقيع "اتفاق الغاز"، خفضت إسرائيل مستوى تأهب قواتها على الحدود اللبنانية؛ وصرح رئيس الموساد ديفيد بارنيا: "بحكم الأمر الواقع اعترف لبنان لأول مرة بشرعية دولة إسرائيل، ومهما حاول حزب الله وحلفاؤه إثبات خلاف ذلك، فهذا لن يغير من جوهر الأمر". هذا يعني أن الحزب حصل على جائزة قيمة من وراء الموافقة على الاتفاق، وهي تتلخص في إسناد مهمة حماية الحقلين الغازيين إليه مقابل جزء من العائدات؛ طبعاً بالتعاون والتنسيق مع القوات الأمنية الإسرائيلية...

وهكذا، وبشكل غير متوقع، جمع غاز المتوسط في بوتقة واحدة لعاب لابيد وعون مع لعاب نصرالله المصاب بالحساسية - حسبما يدعي أتباعه - لكن الإفراط في اللعاب قد يؤدي إلى داء الكلب، الذي سيجر جرذ قاسيون لاحقاً لاتفاقات مشابهة. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات