شهد التاريخُ ويشهد الكثير من الثورات العظيمة، ومهما يكن، فإنّ لكلّ ثورةٍ شرعيّتها وأسبابها المنطقيّة، كل ذلك تبعاً لطبيعة الإنسانيّة الّتي تميل للأفضل، للحريّة، للخلاص، والأهداف السامية. لكنّ مسيرات الثورات ليست بتلك المثاليّة والطريق الهادئة الّتي من خلالها تحقق الثورات أهدافها والوصول بمن قام بها إلى المرسى، بل على العكس تماماً، فالكثير منها تعرّض في مرحلة ما إلى السرقة والسطو، والقرصنة إن صحّ التعبير، وهذا عائدٌ بحقيقته إلى انشطار التاريخ البشري بين الخيّرين والأشرار، وطبيعته وتناقض مصالح القوى إبان كلّ ثورة ومحاولة كلّ منها طبع الحراك بطابعها الخاص وحرفه تجاه ما ترغب بتحقيقه، ولهذا السبب بالذات فإننا نستطيع أن نلاحظ نتائج تلك التحوّلات التاريخيّة والمفارقات الّتي تحفّها من كلّ جانب، عاكسةً بذلك عقليّة المجموعات البشريّة المكوّنة له….
لا يمكن لأيّ حراك أن يكون مرهوناً لآمال الناس تماماً، إلّا إذا كانت البشريّة جمعاء نسخةً عن ذاتها وهذا محال، لذلك السبب فإنّ كلّ الثورات تبقى عرضةً للسطو والانحراف والاستلاب وكأنّها تسير على شفا هاويةٍ في كلّ مراحلها، حتّى ذروة الذروة والقوّة…
إنّ أعظم الثورات في التاريخ تعرّضت في لحظةٍ ما إلى الابتعاد عن أهدافها الّتي قامت من أجلها، كالثورة الفرنسية ولا يزال التاريخ يذكرُ حراك الشعب الروسي في بدايات القرن العشرين، وتحديداً في عام 1905 قامت الثورة الشعبية الروسية ثم ما لبث أن سطا الشيوعيون البلاشفة على الموجة الأخيرة منها عام 1915، وفي عام 1917 نجح الانقلاب البلشفي بقيادة لينين من الهيمنة تماماً عليها وواصل السطو عليها خليفته جوزيف ستالين، الذي أحكم سطوته عبر التخلص من آباء الثورة الحقيقيين مثل بليخانوف وتروتسكي. وصارت هذه الثورة تعرف بعد هذا التاريخ باسم الثورة الشيوعية، رغم أنها كانت شعبية ولم يكن الشيوعيون أوّل من انضم لها، لكن كما هو الحال في كلّ الأشياء الثمينة، فإنّ الطامعين بها كثر…. وكذلك أيضاً عام 1977 اندلعت الثورة الشعبية الإيرانية على يد الثوار الشيوعيين وشباب ثوريين آخرين، ليبراليين ويساريين وإسلاميين ومن القوميات الإيرانية، ونتيجة التدخل الأميركي والفرنسي إلى جانب الخمينيين فيما بعد، ونتيجة تهاون الثوار وتراخيهم قليلاً أو غفلتهم، صعد أتباع الخميني، و ما هي إلا بضعة أشهر حتى تمّ السطو الكامل على الثورة وأسلمتها وصارت تنسب إلى الإسلاميين وتعرّف باسمهم، وتعرّف في كتب التاريخ بالثورة الإسلامية 1979م، رغم أن من أطلق شرارتها كانوا من غير الإسلاميين.
حتّى الثورة السوريّة لم تكن بمنأى عمّا سبقها من مثيلاتها، حينما شهدت في مرحلة ما من مراحلها اندفاعاً محموماً نحو "أخونة الثورة" وسرقة صوت الثورة وثوّارها الأوائل، كل ذلك كان عبر تيّاراتٍ متشعّبةٍ ومتّفقة ومختلفة، فعندما انطلقت الثورة في سوريا لم يكن الإسلاميون وتيّارهم السياسي ببعيد، فقد كانوا يتفاوضون مع النظام السوري سرّاً بوساطة تركيّة، ولم يرغبوا بدايةً بأيّ تحرّكٍ لهم، سوى أنّهم كانوا يحاولون انتزاع اعتراف أسدي بهم كمكوّن سياسي أو شريك على أبعدِ تقدير.
لهذا السبب بالذات لم ينخرطوا بحراك الشعب السوري العظيم، بل انتظروا لعدّة شهور معوّلين على تهدئة النظام لهذا الحراك ومنحهم بعض الامتيازات كشراكة سياسيّة، لكنّهم نهايةً أدركوا أنّ الشعب السوري مضى قدماً في إسقاط النظام الّذي كانت هذه التيّارات الإسلامويّة تأمل بمشاركته، ولم يجدوا بعد ذلك بدّاً من الانخراط بهذه الثورة، كي لا يخرجوا من لعبة المصالح الّتي تقوم عليها كلّ التيّارات الأُخرى.
لكنّهم لم يرضوا في هذه المرّة بدور الشريك أو المكوّن، بل على العكس تماماً، فقد أخذوا دور الأب والقائد، وطبع الثورة السوريّة مع الزمن بطابعهم الخاص وكأنّهم هم من قام بها، وهنا بدأت عمليّة "القرصنة المنظّمة" على الثورة السوريّة وطموحات هذا الشعب، كل ذلك تمثّل بمكاتبهم السياسيّة في الخارج ومنابرهم الإسلامويّة الّتي راحوا يصدّرون منها الخطاب الطائفي الموازي للخطاب الطائفي الدموي الأسدي، ناطقين باسم الشعب ومنتحلين صوت ضحاياه، كذلك أيضاً بدؤوا بإنشاء فصائل مقاتلة وبدعم فصائل أُخرى ابتلعت من خالفها ومن سبقها في هذا المضمار، ماضين في سلب الثورة أهدافها وتوجّهاتها الشعبيّة البريئة، عبر إسباغ الصفة الدينيّة والطائفيّة على ثورة شعب مسلم معتدل بطبيعته، محاولين إزاحتها عن مسارها الوطني والثوري والسلمي، وقد نجحوا مع الزمن بذلك، وهذا كان هدف النظام الأوّل في تعامله مع هذا الشعب وما مضى إليه.
فكما أراد النظام سرقة حرّية شعب كامل أرادوا سرقة ثورة كاملة بكل صفاتها وأهدافها في التغيير والكرامة، وبذلك أصبح الشعب السوري الثائر في مهبّ عاصفة اختلقها سفّاح ديكتاتور وقرصانٌ أعورٌ…
وبهذا قدّمت التيّارات الإسلامويّة أكبر خدمة للنظام لم يكن ليحلم بها، وغدت بالنسبة للنظام المخلّص والمنقذ. إنّ سعي الإخوان وشركائهم الإسلاميين في اختزال الثورة السوريّة بصراع طائفي وثقافي هو تغييب لحق الشعب بالكلمة، وخيانة كبرى وتغطية على دكتاتور مجرم ونظام لم يشهد التاريخ له مثيل أبداً.
أيّد غالبيتهم أيضاً تدخلاً تركياً لفرض الحماية وإنشاء ملاذ آمن بعمق 5 كم على امتداد الشريط الحدودي الشمالي الذي يشمل جميع المناطق الكردية ثم جعل هذا الملاذ، حسب أهدافهم، قاعدة للجيش الوطني الّذي أنشأته تركيا تحت مباركتهم، الّذي هو بحد ذاته كان نتاجاً لكلّ مشاريعهم المريضة.
راحوا يزرعون القناعة لدى السوريين بأنهم عاجزون عن إسقاط النظام وأرادوا من وراء ذلك تبديد الثقة بكل أشكال المقاومة وزجّوا بفصائلهم المسلّحة في الساحة لمواجهة الثوّار والشعب في الخطوة الثانية أخذوا يروجون لفكرة أن المقاومة المسلحة ذاتها غير قادرة على تحقيق شيء من دون تدخل خارجي مباشر يعزز من دور هذه المقاومة. في الخطوة الأخيرة اعتبروا أن ليس كل تدخل خارجي مبرراً سوى التركي، وفي هذه البرهة صرح السيد “الشقفة” المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين مستعيراً لسان السوريين، وصار ناطقاً باسمهم، “إن السوريين يقبلون بالتدخل التركي ويرفضون التدخل الغربي”! وكان من شأن هذا المطلب أن وضع النظام في موقف الوطني المدافع عن الوطن والأرض أكثر.
وحسن حظ النظام، أن المعارضة الخارجية المتمثّلة بإخوانيٍّ وإسلاميٍّ وشيوعيّ موالٍ لهما، في سوريا عجزت عن بلورة قيم وطنية جديدة تعكس انتماء وطنياً وديمقراطياً أسمى، فكلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من قيمها الوطنية، وغرقت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والسلبية والعدائية، وصارت ذيلية للأجندة الإقليمية من موسكو وحتى جزر القمر…
والآن وبعد كلّ هذا الزمن، فلم تعد المشكلة السوريّة متمثّلة بنظام مجرم فحسب، بل وصلت إلى نقطة اشتراك من سرقوا الثورة مع ذلك الدكتاتور، وتتحمّل مع النظام الأسدي كامل المسؤوليّة بما وصل إليه الوطن السوري من دمار وجريمة، وما هذا الّذي يحدث الآن في الشمال السوري من اقتتال وغزوات وحروب جهاديّة ومن تحالفات بين (وطنيٍّ ولا وطني، إخوانيٍّ ولا إخوامي، إسلاميٍّ ولا إسلامي) في بقعة جغرافيّة على شكل شريط من المخيّمات والمنكوبين، ماهي إلّا نتيجة منطقيّة لسرقةٍ كبرى حدثت على مدار عشرِ سنواتٍ على مرأى ومسمع من السوريين جميعاً.
لا أحد يستطيع أن يعلن موت الثورة السوريّة، فكما أن الثورات تكون عظيمة بمن صنعوها، فإن الثورة السوريّة عظمتها مستمدّة من التضحيات الّتي بذلها السوريون العاديّون… لكنّ أحداً ما يستطيع أن يقول: إنّ الثورةَ السوريّة انحرفت عن مسارها بعيداً، واستولى عليها القراصنة الجدد، فلا تزال رغم كل شيء أصواتٌ تنادي بإعادة صفة السوريّة لهذه الثورة، وتجريدها من كل الأيديولوجيات والعباءات والعمامات "والقافات" والبنادق الّتي لم تفعل سوى أنّها الآن تحجب وجه الثورة الجميل، وربّما علينا أوّلاً أن نؤمن " بأنّ الثورات من الممكن أن تُسرق، وأن ننتبه على هذا، الآن وغداً ومابعده"
ثورةٌ شعبيّةٌ عظيمةٌ سلبها دجّال وقرصانٌ وعسكريٌّ وشيخٌ وأبو فلان…..
التعليقات (2)