عندما تتحاشى روسيا مواجهة أمريكا وإسرائيل في سوريا

عندما تتحاشى روسيا مواجهة أمريكا وإسرائيل في سوريا

 بدت روسيا خلال الفترة الأخيرة وكأنها تتحاشى مواجهة واستفزاز وحتى مناكفة ومشاغلة أمريكا وإسرائيل في سوريا، وتُفضّل فعل ذلك في فلسطين ولكن دعائياً أيضاً وبدون أنياب حقيقية، أو فعل بل أفعال جديّة لخلق وقائع سياسية ملموسة على الأرض.

إذن التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس الماضي نظيره الفلسطيني محمود عباس في كازاخستان بعدما كانت موسكو قد استقبلت أوائل تشرين الأول أكتوبر الجاري وفداً قيادياً رفيعاً من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة أمينها العام "الفعلي" جميل مزهر، وكانت قد استقبلت منتصف أيلول سبتمبر الماضي وعلى نحو مفاجىء أيضاً وغير معلن مسبقاً وفداً رفيعاً من حركة المقاومة الإسلامية حماس بقيادة رئيس مكتبها السياسي العام إسماعيل هنية في زيارته الأولى إلى روسيا.

الزيارات التي بدت وكأنها رُتّبت على عجل، شهدت لقاءات رفيعة المستوى للوفود الفلسطينية مع وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائبه المبعوث إلى المنطقة المكلّف بالملف الفلسطيني ميخائيل بوغدانوف، ومسؤولين في مجلسي البرلمان "الدوما" والاتحاد الفدرالي، إضافة إلى لقاءات دينية لافتة لوفد حماس مع مجلس الإفتاء الإسلامي والبطريركية الأرثوذكسية، كما وجد الوفد الوقت حتى للقاء رستم مينيخانوف رئيس جمهورية تتارستان العضو في الاتحاد الفدرالي الروسي.

بدا توقيت لقاء بوتين –عباس كما زيارة وفدي حماس والشعبية إلى موسكو لافتاً، ولا شك في ظل التراجع الروسي المدوّي في أوكرانيا، والخلافات المتصاعدة مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وعلى بعد أسابيع من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة التي حاول فيها الحشد ضد روسيا وغزوها لأوكرانيا، مع تجاهل عملي وجوهري للقضية الفلسطينية، وتبني لمنطق السلام الاقتصادي الإسرائيلي رغم الخطاب الإنشائي المعاكس عن فلسطين وقضيتها، ما أثار حتى استياء وخيبة السلطة في رام الله التي رفض رئيسها محمود عباس استقبال مساعدة وزير الخارجية الأمريكية باربرا ليف عندما حلّت في فلسطين المحتلة قبل أيام فقط من سفر وفد حماس إلى موسكو.

تزامنت اللقاءات الروسية الفلسطينية كذلك مع حالة من الضبابية والتوتر تسود العلاقات الروسية الإسرائيلية على خلفية ارتفاع سقف الموقف الإسرائيلي من الغزو الروسي لأوكرانيا سياسياً وإعلامياً وحتى عسكرياً، مع تولي يئير لابيد رئاسة الوزراء، ووصل الأمر إلى التراشق الإعلامي "المضبوط" وفتح  السلطات الروسية ملف الوكالة اليهودية في أراضيها وتقديم تل ابيب معلومات لكييف عن كيفية مواجهة المسيّرات الإيرانية التي اعتمدت عليها موسكو في قصفها الهمجي لأـوكرانيا وحتى بيع هذه الأخيرة أسلحة إسرائيلية مضادة للطائرات المسيّرة ولو عبر طرف ثالث "بولندا"، رغم معرفة تل أبيب وجهتها النهائية، وهو الأمر الذي كان بإمكانها منعه وجاء أساساً نتيجة ضغوط أمريكية مكثفة عليها لاتخاذ موقف أكثر وضوحاً وحسماً لمساعدة أوكرانيا ضد الغزو الروسي للبلاد.

بناء على المعطيات السابقة، يمكن الاستنتاج أن روسيا سعت من وراء استقبال هنية وحماس ثم مزهر والشعبية وأخيراً لقاء عباس في هذا الوقت بالذات إلى استفزاز ومضايقة ومناكفة وربما للدقة مشاغلة أمريكا وإسرائيل في فلسطين لا سوريا التي تحتفظ فيها بقواعد ونفوذ سياسي في مناطق سيطرة نظام بشار الأسد، وبالتأكيد كان بإمكان موسكو مواجهة واشنطن وتل أبيب هناك، بينما فضّلت اللعب بالورقة الفلسطينية ولو دعائياً ودون أنياب وسياسات عملية على الأرض إن فيما يخص تقوية السلطة في الضفة الغربية أو السعي لاستئناف مفاوضات التسوية مع إسرائيل أو حوارات المصالحة الفلسطينية أو التحرّك الجدي لرفع الحصار عن قطاع غزة، وهو الملف الذي يمثل الهاجس الأساس لحماس وسلطتها في القطاع المحاصر.

بتفصيل أكثر وفي السياق السوري مثلاً، تتواصل الغارات الإسرائيلية، حيث وصلت جرأة الدولة العبرية إلى حدّ قصف المطارات في دمشق وحلب وحتى الموانىء في طرطوس واللاذقية مع اقتراب الهجمات من المحيط المباشر لقاعدة حميميم وعدم التصدي لها أو تشغيل الرادارات ضدها، وهو ما يقف خلف الطلب الروسي من إيران عدم التموضع في المعسكرات والمناطق القريبة، بل والطلب حتى من الأسد وإيران عدم الرد على التصعيد والضربات الإسرائيلية كي لا يزداد الحرج الروسي.

ورغم الارتفاع النسبي في اللهجة السياسية والإعلامية الروسية ضد الغارات الإسرائيلية في سوريا لكن هذا لم يصاحبه أي تحرّك ميداني للجمها، بل على العكس قامت موسكو بسحب منظومة إس إس. 300، وإبقاء الأخرى الأكثر تطوّراً إس إس. 400 فقط لحماية القاعدة الجوية الروسية في حميميم والبحرية في طرطوس دون أي معسكرات وأهداف أخرى تابعة للنظام أو إيران.

روسيا لا ترد كذلك على الولايات المتحدة في مناطق وجودها شرق الفرات بسوريا، ولا تقوم بأي تحركات فعلية على الأرض لتهديد الوجود الأمريكي وذراعه المركزي المتمثل بالجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، وأيضاً مع لهجة سياسية ودبلوماسية غاضبة تتحدث عن دعم واشنطن سرقة الثروات النفطية ودعم الخيارات الانفصالية في البلد.

وبالعموم، لا تفعل روسيا شيئاً في سوريا سوى رفع مستوى الخطاب السياسي والإعلامي "نسبياً" ضد الولايات المتحدة، وبدرجة أقل ضد إسرائيل، للحفاظ على الواقع الراهن بما في ذلك قواعدها العسكرية ونظام بشار الأسد التابع لها، ولكنها بالمقابل سعت إلى الردّ عملياً في فلسطين عبر لقاء رئيس السلطة بعد استقبال وفود رفيعة المستوى من الجبهة الشعبية وحركة حماس.

وبينما بدا عباس مندفعاً للقاء بوتين، وكانت الجبهة الشعبية ممتنّة ومتحمسة جداً لزيارة موسكو، حصلت نقاشات وجدالات داخل حماس حول الزيارة وتوقيتها والأهداف الروسية من ورائها، ورغم الخلافات أو وجود أصوات أقلية حذّرت من استغلال موسكو لها للتغطية على أزماتها ونكساتها في أوكرانيا وحتى على جرائمها في سوريا، إلا أن القيادة المتنفذة تحديداً يحيى السنوار وصالح عاروري والتي يتماهى معها هنية حفاظاً على موقعه أصرّت على المضي قدماً فيها بحجة أنها مناسبة لتكريس شرعية وجود وحضور الحركة، مع الانتباه إلى أنها أتت بعد العدوان الإسرائيلي الأخير ضد غزة، الذي لم تشارك حماس في التصدي له ونالت إشادة إقليمية ودولية على ذلك حتى من إسرائيل نفسها، التي عمدت إلى زيادة التسهيلات لغزة في الأيام الأخيرة لإبقاء الوضع هادئاً فيها وفصلها عن الغليان المتصاعد في الضفة الغربية.

وللتأكد أن التحرك الروسي دعائي بحت وبدون أنياب حقيقية، يمكن مراجعة الإعلان الانشائي المنفصل عن لقاء بوتين- عباس الذي تحدّث عن بحث آفاق استئناف المفاوضات مع إسرائيل، رغم أن ذلك غير مطروح على جدول الأعمال في المدى المنظور على الأقل كما بيانات وزارة الخارجية التقليدية المكررة والإنشائية جداً عن لقاء الوفود الفلسطينية، والتي جاء فيها حرفياً ما يلي: "شدد الجانب الروسي على أهمية الإسراع باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية استناداً إلى البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وضرورة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس القانون الدولي المعترف به عالمياً، استناداً إلى قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة، وكذلك مبادرة السلام العربية".

وبالعموم، لا تبدو روسيا المستنزفة والمتراجعة على كل الصعد في وضع يسمح لها بالانخراط لا في فلسطين ولا المنطقة بشكل عام، وهي تسعى فقط إلى حفظ ماء الوجه كقوة عظمى واستغلال القضية الفلسطينية ضمن استغلال موصوف لأنظمة الاستبداد للتغطية على مشاكلها وأزماتها الداخلية والخارجية مع الانتباه هنا إلى حقيقة أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال عالمية وأممية بامتياز.

وفي كل الأحوال يبدو الوجود الفلسطيني في موسكو روتينياً وتقليدياً جداً، ولا يمكن الحديث عن نتائج جدية له خارج الإطار الدعائي، فأزمات روسيا لا تزال حاضرة، ولا تحجبها الزيارات واللقاءات الفلسطينية أو تخفف منها، وعلى العكس فقد أكدت عجز موسكو عن مواجهة إسرائيل وأمريكا جدياً لا في فلسطين ولا في سوريا، كما أكدت أنها غير قادرة على لعب دور جدي في القضية الفلسطينية والمنطقة بشكل عام. أما السلطة والحركة والجبهة فالتحديات لا تزال ماثلة أمامها وحاضرة في الجانب الداخلي أساساً وتتعلق بكيفية إنهاء الانقسام وبلورة إستراتيجية وطنية موحّدة لمواجهة الاحتلال، ورفع الكلفة عليه، وهي أمور لا تستطيع روسيا التدخل أو المساهمة بها بأي حال من الأحوال.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات