اقتتال الفصائل في شمال سوريا وتمايز الفواعل

اقتتال الفصائل في شمال سوريا وتمايز الفواعل

بعد الاقتتال الأخير بين فصائل الشمال السوري، يمكن القول بأن تسمية هذه المنطقة "بالمحرّرة" ضرب من الخيال، فلم يبقَ إلا سَوق الناس لتجنيدهم في الفصائل حتى تكون المنطقة نسخة عن المناطق التي يحكمها النظام السوري. كانت حادثة اغتيال الناشط محمد أبو غنوم وزوجته بمثابة الشرارة التي اندلع منها اللهيب، حيث شكلت فرصة لبعض الفصائل لتصفية حساباتها مع فصائل أخرى، وأظهرت مدى إجرام بعضها، وأعادت التأكيد على أن هذا الشعب في هذا الحيز الجغرافي ما زال يحمل روح الثورة السورية، وأيقن الناس أن المؤسسات التي من المفترض أن تكون سيادية، ما هي إلا وهم، وخاصة وزارة الدفاع.

من المفترض أن تكون وزارة الدفاع مسؤولة عن الأمن على الصعيد السياسي والعسكري، وتعالج القضايا الأمنية ببناء أجهزة أمنية وإدارية قوية. إلا أن وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة ما هي إلا إدارة تعمل ببرامج عمل وهمية، حيث إنها تدّعي العمل على تنظيم القوى العسكرية والثورية المنضوية تحت مظلة الجيش الوطني السوري، بهدف الانتقال إلى حالة عسكرية تعمل بتراتبية إدارية وسلسلة قيادة وسيطرة. وبالتالي، من المفترض أن تكون الفاعل الأكثر حضوراً. والحقيقة أننا لم نرَ شيئاً من ذلك على أرض الواقع، فالتنظيم يفرض وجود قضاء عسكري مستقل ونزيه، ومحاكم عسكرية تطبّق القانون العسكري دون تمييز، وقانون عسكري صارم تُحمَل عليه الفصائل، وبرنامج عمل ينهي الحالة الفصائلية. 

إلا أن الأحداث الأخيرة بيّنت شكلية هذه المؤسسة، ووهمية ما تسعى لتحقيقه. فأين وزارة الدفاع مما حدث؟ وما هذه الوزارة التي لم تحدِّد موقفها الحقيقي مما جرى؟ سوى بيان مصور للمتحدث باسمها يؤكد أن الحكومة المؤقتة هي من تدير الوضع الأمني في عفرين، وبعد هذا التصريح وصلت هيئة تحرير الشام إلى قرية كفر جنة القريبة من إعزاز. ولم يكن لها دور يُذكر مما جرى في مدينة الباب، واكتفت بتقديم التعازي لذوي الشهيد، وأظهرت مشاعر الأسف على الأحداث التي تلت عملية الاغتيال في مدينة الباب. والواقع يقول إنها لم تجرؤ على إدانة أي فصيل عسكري مهما فعل، وكأنها تحمي المجرمين. 

إن أشد ما تعاني منه المنطقة هو جماعة من المنحطّين وشذّاذ الآفاق واللصوص والقتلة الذين يشكّلون نسبة لا بأس بها في أغلب الفصائل. هؤلاء الناس كان الوازع لهم قبل الثورة ليس القانون أو أخلاقهم، إنما رجال الشرطة والأمن، ولكن في زمن الثورة لا رادع لهم، فمن السهل عليهم أن يقتلوا من يخالفهم، وأن يستبيحوا أموال الناس بحجج تافهة، ولا يبالون بالقضية التي مات لأجلها مئات الآلاف من السوريين. إنهم داء المنطقة العُضال، ومنهم فريق عندما انقلبت عليه الموازين لا يلبث أن يتحالف مع من كانوا أعدائه، ظناً منه أنه سينجو.  وللأسف هؤلاء هم التجمع/الفاعل الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً. من السخرية أنهم جزء من وزارة الدفاع التي عززت من نفوذهم بعدم اتخاذها خطوات جدية لإخضاعهم، حتى إنها لم تبدِ أي محاولة لمحاسبتهم أو إدانتهم على انتهاكاتهم بحق المدنيين والناشطين، فقد أدانت عملية اغتيال أبو غنوم، ولم تُدِن الفاعل الرئيسي. 

أما الفاعل الثالث فهو الحراك الثوري، وينقسم الناس فيه ثلاثة أقسام، الأول: يكاد يفضّل خضوع المنطقة لسيطرة جهة غير الفصائل. تفضيلهم هذا عبارة عن ردة فعل على سوء الأوضاع الأمنية وتفشي الفساد في كل المؤسسات، فهم يرون في النموذج الأخر قدرة على الإمساك بمفاصل الأمور على كل المستويات. الثاني: يفضل الانتظار لحين إصلاح الأوضاع العسكرية والمدنية والسياسية في مناطق سيطرة الجيش الوطني دون المطالبة بها، ويفضّلون بقاء الوضع على ما هو عليه. وهذا الانتظار نابع من اعتيادهم على الحريات بعيداً عن تأثير أي جهة. الثالث: هم الأقل عدداً، ويطالبون ليل نهار الفصائل بالتوحد، وبإصلاح المؤسسات إصلاحاً جذرياً، أي إنهم يسعون للتغيير. ويرفضون رفضاً قاطعاً دخول أي طرف للمنطقة.

يمكن القول إن الحراك الثوري الذي (ملأ) شوارع الشمال السوري كان من نصيب القسمين الأخيرين، حيث عبروا عن رفضهم لدخول هيئة تحرير الشام للمنطقة خوفاً من التبعات الناتجة عن كونها مصنفة كمنظمة إرهابية (أظنها أخذت هذه النقطة بعين الاعتبار)، ونهجها القمعي في السيطرة والتحكم، ودعموا جهود الفيلق الثالث في التصدي لها. إلا أن هذه الحراك الثوري لم يكن له تأثير فعلي في الأحداث الأخيرة، لأنه كان متأخراً نوعاً ما، فلم يبدأ إلا بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على عفرين واقترابها من مدينة إعزاز، فلو أنه تحرك في كل مناطق شمال وشمال غرب سوريا بالتزامن مع تقدم الهيئة باتجاه مدينة عفرين، لكان له تأثير حقيقي في مجريات الأحداث. 

من جهة أخرى، فإن طبيعة الفصائلية وارتباطاتها المرنة مع الخارج تجعل من الصعب على الحراك الثوري التأثير فيها في مثل هذه الحالات. أي إن الحراك الثوري الفعلي والحقيقي يؤتي أُكله في حال كان ضد جهة مدنية، أما إذا كان ضد جهة عسكرية؛ فإن تأثيره في الغالب يكون ضعيفاً للغاية.

الظاهر أن ما يؤثر فعلياً على الساحة في شمال وشمال غرب سوريا على الصعيد العسكري والأمني بالذات مخفي وراء الحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع والفصائل، فمثلاً انسحاب هيئة تحرير الشام من منطقة غصن الزيتون لم يكن تحت ضغط الحراك الثوري أو وزارة الدفاع أو الفصائل، بل كان بأمر من الدولة التركية. فسوء إدارتهم للمنطقة كان عاملاً مسرعاً للانهيار، فهل سيكون لهم دور في مستقبل سوريا؟ 

وأظهرت الأحداث الأخيرة مقام كل طرف في نفوس السوريين ووزنه على الساحة ومدى فاعليته في التأثير على مجريات الأمور. ويبقى الحراك الثوري الفاعل الوحيد المعبّر عن الجانب الوجداني للثورة السورية، وله رونقه الخاص، وإليه تنتهي مكاسب الأطراف كلها. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات