ماذا حصل في الشمال؟ وما الذي اكتشفته أطراف الصراع؟

ماذا حصل في الشمال؟ وما الذي اكتشفته أطراف الصراع؟

على مدار التاريخ لم يحصل أن توحدت الجماعات مشكِّلة دولة أو ما يشبه الدولة إلا تحت ضغط اختلال موازين القوة أو الخوف، فالعنف هو الأداة التي خلقت الدولة، وهذه وجهة نظر أغلب الباحثين الذين نظروا لنشأة الدولة. إن كل دولة تبدأ بالقهر لكن سرعان ما تصبح عادات الطاعة هي مضمون الضمير، ثم سرعان ما يهتز كل مواطن بشعور الولاء للعلم. فالإنسان ما إن يشعر بمزايا المجتمع المنظم تبدأ حالة الرضا تسيطر عليه. ورغم وجود بعض الحالات التي يعتقدها البعض خارج تلك القاعدة؛ فهي في الواقع مجرد استباق لحدث قد يحصل بالقوة، أو نتيجة لظروف استثنائية.

بناء على ما سبق؛ تبدو الدعوة المتكررة إلى الاندماج السلمي للفصائل العسكرية الموجودة في الشمال السوري، تعبّر عن قصور في النضج وضعف في المقدرة على مقابلة مطالب البيئة. وفي تناقض صارخ بين الرغبات والسلوك، ينتفض الشارع بحملات صاخبة ضد أي محاولة لفرض إحدى الجهات نفوذها على الآخرين بالعنف؛ علما أنه الطريق الوحيد الممكن. وقد أفرزت هذه البيئة نوعاً فريداً من التوازن الهش بين القوى المتعددة التي تتقاسم النفوذ على المنطقة التي تخضع شكلياً لسلطة الحكومة المؤقتة.

بدأت القصة منذ أن صمتت فوهات البنادق مع توقف المعارك، فكل المشاكل التي كانت قد رحّلت للمستقبل تحت عنوان: لا صوت يعلو فوق سطح المعركة. أصبحت حاضرة بقوة، وطغى الصراع على السلطة والنفوذ على المشهد، بالخفية تارة، وبالعلن تارة أخرى. ومن أجل زيادة القوة حصلت تحالفات واندماجات بين بعض الفصائل قرأها الآخرون على أنها موجهة ضدهم؛ فكان الرد بتحالفات مضادة، ومع زيادة التنافس وزيادة الخلافات كانت الأجواء تنذر بقرب الصدام، وبالفعل حصلت بعض الصدامات التي انتهت دون نتائج تذكر.

تمخضت تلك المناوشات التي حصلت عن قراءة جديدة لطبيعة التحالفات ونطاقها، فقد تبين لبعض الفصائل أن التوازن القائم ليس حقيقياً، فالتحالف الذي تقوده "الجبهة الشامية" أو الفيلق الثالث هو الأقوى في الميدان، وأن الهيمنة على باقي الفصائل أو ابتلاعها ليس معطلاً بعامل توازن القوى، وإنما هو بسبب التردد باتخاذ مثل هذا القرار وغياب التوافق داخل قيادات الفيلق الثالث عليه.

 لذلك، لجأت بعض الفصائل التي بدأت تشعر بالخوف إلى التحالف مع "هيئة تحرير الشام" التي تسيطر على مدينة إدلب وأريافها. وكان من الطبيعي أن ترحّب هيئة "تحرير الشام" بهذه التحالفات، إذ من الطبيعي أيضاً أن تنظر "هيئة تحرير الشام" إلى تعاظم قوة "الجبهة الشامية" بعين الريبة، فرغم أن المناطق الخارجة عن سلطة النظام هي ثلاث مناطق، إلا أنها جميعاً تندرج تحت مسمى "المناطق المحررة" أو "المناطق الخارجة عن سلطة النظام"، ومشاريع توحيد هذه المناطق في ظل إدارة واحدة وسلطة واحدة مشاريع قائمة، وربما تصبح الضغوط بهذا الاتجاه شديدة عندما تتوافق القوى الدولية عليه. وبالتالي، سوف توكل المهمة للأقوى وللأنجح، أو لنقُل ستكون له اليد الطولى في تلك المهمة.

بالمحصلة، حدث الصدام بين "الجبهة الشامية" التي تعتبر نفسها الفصيل الأقوى في المناطق الخاضعة شكلياً لسلطة الحكومة المؤقتة، وكذلك الفصيل الذي يمتلك الشرعية الثورية أكثر من غيره؛ على أساس أنه امتداد للواء "التوحيد" الذي كان يقوده أحد أهم رموز الثورة الشهيد عبد القادر الصالح. حصل الصدام بينها وبين "هيئة تحرير الشام" التي تعتبر نفسها الفصيل الأقوى في كل المناطق، وهي استطاعت إدارة مناطقها بالشكل الذي عجز عنه الآخرون، كما تعتبر نفسها صاحبة شرعية جهادية لا تقل عن الشرعية الثورية التي تدّعيها "الجبهة الشامية". حصل الصدام وانتهى، أو ربما هو في طريقة للانتهاء. ولكن، ما الذي اكتشفه أطراف الصراع؟

بالنسبة للجبهة الشامية يوجد إحساس لدى قادة الجبهة أن هيمنة الجبهة الشامية على باقي الفصائل هو تجاوز لخطوط حمراء. هذا الإحساس أصبح يقيناً بعد الصدام الأخير (ربما يعود السبب لضعف في سياسة الجبهة الشامية). 

من جهة أخرى، لا بد أن قادة الجبهة الشامية قد اكتشفوا أن مؤسستهم تعاني من خلل بنيوي لا بدّ من علاجه، والأهم من هذا وذاك، أنهم لاحظوا أن شرعيتهم الثورية قد تناقصت بشكل مرعب، وذلك لأن الشعارات الثورية تفقد بريقها مع الزمن ما لم تقترن بالعمل. أما "هيئة تحرير الشام" فقد اكتشف قادتها أن تصنيفها كمنظمة إرهابية ما زال عائقاً قوياً أمام طموحاتهم ورغباتهم، والأمر الآخر الذي لا يقل أهمية؛ أن بعض البراغماتية والمرونة التي أظهرها قادة الهيئة في المراحل الأخيرة ما زالت بعيدة عن مطالب الجماهير، وخاصة فيما يتعلق في مجال الحريات، فالحرية التي جعلها السوريون شعاراً لثورتهم لا يمكن أن تصبح في يوم من الأيام مطلباً ثانوياً. 

أما الطرف الثالث في معادلة الصراع، فقد كان السكان المدنيين: الشعب. هؤلاء في ظل تنافس طرفي الصراع العسكري على الاستحواذ على دعمهم وتأييدهم اكتشفوا واكتشف العسكر معهم أنهم المصدر الوحيد للشرعية، ونتيجة للاهتمام بصوتهم بعد سنوات من التهميش شعر بعضهم بالنشوة، وخاصة على مستوى الناشطين، وبدأ هؤلاء بإطلاق بعض المبادرات، إلا أن هذه المبادرات ما زالت تهيمن عليها النظرة الطوباوية الحالمة، وهو ما يشير إلى أن الشارع الثوري ما زال بعيداً عن النضج الذي يمكّنه من استثمار فكرة أنه المصدر الوحيد للشرعية.

ما حصل في الشمال زلزال بكل معنى الكلمة، فهل دمّر بعض الخرائب ليجبر أصحابها على بنائها من جديد كأبنية مضادة للزلازل؟، أم إنه دمّر ما لا يمكن إعادة بنائه؟، القادم كفيل بكشف النتائج.

 

التعليقات (2)

    عبدالرحمن

    ·منذ سنة 5 أشهر
    أعتقد أن الكاتب لامس حقيقة مايجري بحيادية و صدق

    عامر درويش

    ·منذ سنة 5 أشهر
    مقال رائع فيه توصيف لحال الشمال وفصائل الشمال يحتاج المقال إلى مقال لاحق حتى يكون مكمل له يشرح بشكل أوسع
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات