كان مفاجئاً خروج أحد أهم المحللين السياسيين الأتراك على قناة أورينت ليحدثنا عن المؤسسات الفاعلة لدى هيئة تحرير الشام, والإدارات المنضبطة فيها, وحالة الاستقرار الأمني, والحوكمة الرشيدة التي تؤمنها حكومة الإنقاذ التابعة لسيدها وآمرها أبو محمد الجولاني, هذا الكلام وفق السردية الطبيعية وهذا الموقف وتلك الرؤية لا تعكس فقط وجهة نظر قائلها, بل قد تكون قناعة وصل إليها من يدير الملف السوري بالجانب التركي, فحالة الفساد, وحالة الفلتان الأمني, وحالة عدم الانضباط مع كمّ هائل من الانتهاكات والتجاوزات بحق الحاضنة الشعبية التي تحصل في مناطق النفوذ التركي, وبلاوي الحواجز والمعابر والاقتتالات والصراعات الدائرة حولها ومن أجلها بين أمراء حرب قُدموا لنا على أنهم حُماة الحمى, وقادة الثورة, ومن علينا التعلق بأثوابهم والدعاء لهم, لم تعُد مُرضية للجانب التركي, بل أصبحت حالة ضاغطة ومستفزة.
عود على بدء، لم تكن حادثة اغتيال الشهيد محمد أبو غنوم وزوجته وجنينها هي فاتحة الجرائم والاغتيالات، بل تأتي بسياق طويل من جرائم نال منها الجسم الإعلامي، ما أجبر الكثير من الناشطين والإعلاميين والصحفيين إما على اعتزال العمل أو الهروب للخارج أو توخّي الحيطة والحذر وممارسة عملية كم أفواه قسرية أو طوعية حفاظاً على ديمومة حياتهم.
وما تم رصده من جرائم لا قدرة لعقل ثوري أن يستوعب أنها تحصل بمعتقل وسجن يتبع للثورة (لفصيل الحمزات), وفقط يمكن تخيلها في أقبية استخبارات نظام البهرزي, أو في أقبية معتقلات الضاحية الجنوبية ببيروت, أو في سجون الحرس الثوري الإيراني, لكن أن تكون في مدينة الباب وفي سجن يتبع لفصيل يدّعي أنه من قادة الثورة وعظمائها فذاك ما يعجز العقل عن فهمه, لكن أيضاً ليس سبباً لما حصل, والشيء بالشيء يٌذكر, هناك حتى الآن أكثر من 11 سجناً أخرى لفصائل تقول إنها من مكوَّن الجيش الوطني الذي يتبع للثورة السورية وفي مدينة الباب, وتمارَس في تلك السجون والمعتقلات اللاشرعية كل عمليات التعذيب والترهيب دون رقيب أو حسيب ودون أي سجلات رسمية, أحدها تعود تبعيته لنفس الفصيل (الحمزات) ويُسمّى سجن المغارة, فالأمر ليس سجناً وليس تعذيباً وليس تحقيقاً لعدالة, بل يتخطاه لأبعد من ذلك.
على مدار السنوات الأربع الماضية تعالت أصوات الناصحين والمحبّين والثائرين ووجهاء الحاضنة الشعبية وبعض المحللين السياسيين والعسكريين وكل من يرأف بحال الثورة, مطالباً بتصحيح ما يحصل بالشمال السوري, والتخلص من حالة الفصائلية, والتخلص من دويلات المزارع, ووقف حالات الفساد والظلم, وعمليات التغييب القسري, وسرقات أرزاق العباد, وخروج الفصائل من المدن والبلدات والقرى للرباط على الجبهات بدلاً من رباطهم في بساتين الزيتون ومعاصرها, وعلى الطرقات عبر حواجز السرقة والنهب والتشبيح, وطالبت الحاضنة الشعبية بوقف معابر التهريب مع نظام الأسد وعصابات البي كي كي, لكن كل تلك الصيحات اصطدمت بجدار من الصمت, وعدم المسؤولية ودون أدنى إحساس من قبل معظم من تسيّد المشهد السياسي والعسكري والحكومي, وأصرّ كل هؤلاء على الاستمرار بنفس النهج ونفس الأسلوب ونفس الممارسات.
لكن خلاف أمراء الحرب وأسيادهم لم يكن فقط مع الحاضنة الشعبية والمطالبين بالتغيير والإصلاح, بل انتقل لصفوفهم, فتناحروا على الأرباح والمكاسب والمعابر والحواجز, والسلاح الذي مُنع من الاستخدام على جبهات قتال النظام تذرّعاً بالتزامات وتوافقات أستانا, كان فاعلاً وحاضراً في المعارك الشخصية, والاقتتالات البينية, التي كانت تتفجّر بشكل متتالٍ ومتلاحق دون رقيب أو حسيب, ما استدعى تحت مبدأ "البقاء للأقوى" حالة من التحالفات بين أمراء الحرب, فمنهم من نسج تحالفات داخلية, ومنهم من ذهب لإدلب لينسج تحالفات مع أميرها الجولاني, وتلك التحالفات والزيارات لم تكن سرية بل كانت تتم "على عينك يا تاجر", وصور الاجتماعات نقلتها عدسات إعلامهم متفاخرة أو محذرة خصومهم من تحالفاتهم الجديدة.
الواقع الميداني يقول أن دخول أرتال الغزو الجولاني لمدينة عفرين ومنطقة عمليات غصن الزيتون, ما كان ليتم لولا مساعدات عسكرية ضخمة قُدمت من فصائل محسوبة على الجيش الوطني, فمعبر الغزاوية الموكلة حمايته لفيلق الشام تُرك مفتوحاً وغادره الحُماة, وفرقة السلطان مراد لقائدها فهيم عيسى الموكل به حماية المنطقة من حدود الجولاني حتى عفرين آثر الحياد, وأرتال فرقة سليمان شاه كانت في طليعة المهاجمين على عفرين, ومجموعات مقاتلي فرقة الحمزات لم توفر جهداً ووضعت كل رصيدها تحت راية الجولاني وبتصرفه, يضاف لهم الفرقة 32 وأحرار حسن صوفان التي أصبح اسمها حركة أحرار الجولاني وليس أحرار الشام (ورحم الله قائدها الشهيد حسان العبود لو أنه كان حياً لمات من هول الصدمة لما آل إليه فصيله).
دخول الفاتح الجولاني كما يحب هو وأتباعه تسميته لمدينة عفرين، لم يكن بقوام أرتال دباباته ومصفحاته وعناصره فقط، بل اصطحب معه ألفاً من الأمنيين والسجانين والإداريين وحتى عمال النظافة، وأمّر عليهم كلاً من المهاجر الأسترالي إبراهيم بن سعود, ويونس أبو عبد الله العراقي, وأبو علي التونسي, وأبو سعد المغربي, وأبو ماريا القحطاني العراقي, وخطاب المغربي, وأمام تلك الحشود ولمنع تدمير مدينة عفرين (لخصوصيتها الكردية), آثر قادة الفيلق الثالث الانسحاب وبناء خط دفاع على جبهات بلدة كفرجنة وشران وقطمة, مع احتياطات أخرى توجد في مدينة إعزاز, تسانده فصائل أخرى على بعض المحاور, لكن بقي بعفرين عدة فصائل التزمت الحياد وأغلقت الأبواب على نفسها.
الاتفاق الأول الذي وُقع بين الجولاني وأبو أحمد نور في معبر باب الهوى برعاية الاستخبارات التركية لم يفلح، نظراً لقسوة مطالب الهيئة رغم موافقة ممثل الفيلق الثالث لكن رفضتها بقية مكونات الفيلق واعتبرتها إذلالاً، خاصة البند المتضمن تسيير أرتال استعراضية عسكرية للهيئة، تطوف مدن إعزاز وجرابلس، كرسالة وإعلام يؤكد سيطرة هيئة تحرير الشام على منطقة غصن الزيتون (إذا ما أضفنا لعفرين وريفها مناطق سيطرة المتحالفين مع الجولاني من حمزات وعمشات وأحرار، ومناطق الصامتين مثل فيلق الشام والسلطان مراد).
موقف الحاضنة الشعبية التي غالباً ما تتدخل باللحظات الحاسمة لوقف انحرافات الساسة والعسكر، كان لها الأثر الأكبر برفض كل الاتفاقات المحبوكة مع الجولاني، فاندلع القتال مرة أخرى على جبهات كفرجنة، ومع 2500 مقاتل دخلت أرتال الجولاني للبلدة، بعد قتال تكبدت فيه أرتاله خسائر ليست بالقليلة، وهنا برز الغائب الحاضر عن كل ما جرى، الراعي والضامن التركي، ليعطي أمراً وليس خياراً بوقف إطلاق النار، وخروج الجولاني ومقاتليه من المنطقة، وتولّي حركة ثائرون ترتيب ملفات التماس واستلام المقرات وغيرها.
في شهر تموز/يوليو السابق، كان لافتاً اختراق أرتال الجولاني لحدود منطقة غصن الزيتون، وكان لافتاً حينها انسحاب فيلق الشام عن معبر الغزاوية وفتح الطريق، وكذلك ما فعله فهيم عيسى وفصيله السلطان مراد، الذي اختبأ مع عناصره بمقراته متفادياً أي قتال مع الجولاني، لكن الأمر الأكثر غرابة كان عدم محاسبة تلك الفصائل عما قامت به، ليتكرر الأمر مرة أخرى بالهجوم الحالي للجولاني، فهل ما تم كان بأوامر من تركيا؟؟ أم إن ما حصل تمرد لتلك الفصائل على القرار التركي؟؟ وهو أمر مستبعد نظراً للعلاقة الوطيدة التي تربط فصائل الحمزات والعمشات والسلطان مراد بصاحب القرار التركي، إذاً ما الذي حصل؟؟ وهل كان الجولاني يتجرأ على تجاوز الخطوط التركية الحمراء وتحدّي القرار التركي؟؟ علماً أن طائرة البيرقدار التركية التي أذلّت دبابات بوتين وأرتاله في أوكرانيا، وأذلّت دبابات ومصفحات جيش الأسد وحزب الله في محيط سراقب، ليست بعاجزة عن تلقين الجولاني درساً بالأدب والطاعة لن ينساه ما عاش.
في ميزان الخسارة والربح لا فائدة لتركيا من تمدد إرهاب الجولاني لمناطق الشمال, لطالما أفتى شرعيّو الجولاني بتحريم القتال مع الجيش التركي "الكافر" وفق نظرهم, ولا يمكن للمؤسسات التركية العمل في مناطق تنظيم إرهابي دولي وموضوع على قوائم الإرهاب التركية أيضاً, ومن هرّب آلاف الصواعق والأعتدة العسكرية لتنظيم البي كي كي الإرهابي هم جماعة الجولاني, وضبطتها الأجهزة الأمنية في مرحلة سابقة, ما يؤكد عمق التعاون بينهم, مع ما يصاحبه هذا الأمر من تهديدات ومخاطر للأمن القومي التركي, والأهم أن كثيراً من مبررات تحرير عفرين من الإرهاب التي قدّمتها أنقرة للرأي العام المحلي والإقليمي والدولي عند دخول عفرين, ستسقط بدخول إرهاب الجولاني, وكذلك دخول الجولاني لمناطق الشمال سيتسبب بموجة هجرة عالية المستوى للمدنيين الخائفين من حكم تنظيمات القاعدة, إضافة لقائمة طويلة من الأسماء المطلوبة لهيئة تحرير الشام من ناشطين وإعلاميين وثوريين, سيتم اعتقالهم وتصفيتهم في أقبية سجون الهيئة, فهل يدرك القائم على الملف السوري في الإدارة التركية تلك الحقائق؟؟
في تحليلات الإخفاق الأمريكي بطريقة تعاطيه مع الملف السوري وبما يخص فصائل الثورة, وبعد دراسات مطوّلة خلصت لعدة أسباب أهمها أن توزع مسؤولية التعاطي مع الفصائل كانت مقسمة لأكثر من جهة فتسببت بفشل العمل, فـ بعض الفصائل كانت تتبع لوزارة الدفاع الأمريكية, وأخرى تتبع لمشروع الاستخبارات السي آي إيه, وملفات تُدار من قبل الخارجية الأمريكية, وأحياناً يتدخل البيت الأبيض بقرارات حاسمة, وهذا التشتت وتعدد مصادر القرار أفشل كل التعاطي الأمريكي مع الملف السوري, وغابت الرؤية الواضحة, وفشلت غرف الموك والموم بعملها, وفشل مشروع التدريب المشترك لمحاربة الإرهاب, ما دفع بواشنطن للتنازل عن ملف الحراك المسلح والإبقاء على فصيل في قاعدة التنف, وقوات سوريا الديموقراطية في شرقي الفرات, بعد أن كانت كل فصائل الثورة تُدار من مكان واحد يكون القرار الأمريكي هو الراجح بالتنفيذ, فهل ما أخطأت به واشنطن تعيد تكراره أنقرة؟؟
غبار الحرب بدأ ينجلي بعد تدخل الجيش التركي وبأوامر صارمة لوقف القتال وإعادة الوضع لما كان عليه، لكن الأوامر في واد والتنفيذ في واد آخر، فعفرين ما زالت تعجّ بمئات أمنيي وسجّاني وإداريي الجولاني، ونقاط الحواجز والمراقبة وبعض نقاط الرباط تم "دحش" عدد من عناصر الهيئة فيها بتواطؤ من بعض القائمين على التنفيذ، كما نقل البعض طالبين عدم ذكر أسمائهم خوفاً من بطش الفاسدين وبطش الهيئة، وبالتالي وكأن أمر خروج الجولاني يتم شكلاً لكن بالمضمون تبقى أدوات وحلفاء الجولاني هي المسيطرة في مناطق غصن الزيتون.
تبقى نقطة غاية بالأهمية، هدوء غبار الحرب لا يعني أن ننسى محاسبة قتلة الشهيد أبو غنوم وزوجته، ولا يعني إهمال كشف حساب ما حصل داخل الجيش الوطني ومن قاتل مع وضد ومن آثر الحياد، ولا يعني استمرار حالات الفساد والفلتان الأمني ودويلات المزارع كما كان الأمر عليه، فالمنطقة لم تعد تحتمل الاستمرار بنفس الأسلوب، ولم تعد تحتمل مزيداً من الهزات.
لقد سقطت الشعارات الكاذبة التي كان يتبجح بها البعض ظناً منه أنه يخدع جمهور الثورة، وسقطت معها رموز من ورق كان الجميع يعلم أنها طبول فارغة تسلقت على الثورة بغفلة من الزمن.
اليوم الثورة في منعطف هام، واحتراماً لهذا الشعب الذي لم يبخل يوماً بالعطاء والتضحية، واحتراماً للثورة ومبادئها، يجب فتح كل الملفات التي أوصلتنا للواقع الرديء الذي نعيشه، والعمل على تصحيح مسار الثورة، وأهمها عزل الفاسدين والمتسلقين والغدّارين من سياسيين وعسكريين وحكوميين وممثلين عن مكاتب إعلامية وسياسية لبعض الفصائل، ووضع الرجل المناسب بالمكان المناسب.
وإلا فالجميع مدعوّون ليكونوا عبيداً عند بشار الأسد وزبانية الأسد وتخسرون ونخسر كل شيء.
التعليقات (2)