يتباهى الدبلوماسيون والمستشرقون الروس أثناء لقاءاتهم مع الزعماء والقادة والمسؤولين العرب بالقول "إن روسيا لم تدخل في حروب مع الدول العربية، ولم يحدث هناك صدام مباشر بين العرب والروس على مر التاريخ"؛ إلاَّ إذا أخذنا بالحسبان وجود آلاف من الجنود العرب ضمن الجيوش العثمانية التي حاربت ضد الإمبرطورية الروسية في معارك القرم؛ ولكن جُنّدوا ليس من منطلق عروبي تحرري، وإنما تم سوقهم إلى حتفهم دون رغبتهم أو إرادتهم. إضافة إلى تشكيل فيلق من المتطوعين المسلمين - العرب وغيرهم - للقتال إلى جانب هتلر ضد جيوش ستالين على مختلف جبهات الحرب العالمية الثانية.. كذلك تدفق آلاف المتطوعين العرب لمناصرة المجاهدين الأفغان في حربهم الضروس ضد القوات السوفييتية المساندة للحكومات الرسمية هناك؛ ومن ثم قتال الجهاديين العرب في صفوف المقاومة الشيشانية أثناء غزو الجيوش الروسية لأراضي إيشكيريا (الشيشان).
وإذا جئنا إلى سوريا، فإنهم يعتبرون ما قدمه بلدهم إلى الأسد هو "مجرد دعم للحكومة الشرعية في دمشق" ضد الفصائل المتمردة والتنظيمات الإسلامية الراديكالية.. هكذا إذاً، لم ينشب قتال مباشر بين العرب والروس أبداً؛ ولم يخوضوا حروباً شرسة فيما بينهم - حسب رأيهم!
لقد كانت روسيا - يوماً ما - محط احترام أغلب الشعوب العربية، بسبب مواقفها المؤيدة والداعمة لقضاياها في المحافل الدولية والإقليمية، إذ أصبحت المزوّد الأول بالسلاح لما يسمى "دول المواجهة". لكن، كل هذا قد تغيَّر تماماً؛ لا سيَّما بعد تطور الأحداث في سورية ودخول قوات الأسد الأمنية والعسكرية حرب إبادة حقيقية مفتوحة ضد السوريين بمساعدة هائلة من ميليشيات إيران الشيعية؛ ودعم سياسي ودبلوماسي واقتصادي ومخابراتي غير مسبوق من روسيا... ومع ذلك، لم تمل الكفة لصالح الأسد إلا بعد التدخل العسكري المباشر لهذه الأخيرة، ووقوفها بكل صفاقة إلى جانب المجرم وقاتل الأطفال والنساء والشيوخ... إذ لم تكتف عند حد إرسال السلاح والذخيرة، واستخدام حق النقض "الفيتو" عدة مرات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل إنقاذ المافيا الأسدية، بل نشرت مجموعة طيران ووحدات دعم وحماية ومراقبة في خريف 2015 بناء على طلب رسمي من دمشق.. كذلك أخذت طائراتها المقاتلة بمهاجمة المدن والقرى السورية الخارجة عن سيطرتها في 30 أيلول 2015، محاولة إحداث الرعب والصدمة حتى يتركها أهلها المدافعون عنها وتعود إلى حضن ابن أنيسة الدامي. وقد حققت تلك الهجمات نجاحات مهمة وملموسة، حيث قلبت موازين القوى على الأرض لصالح جلادي السوريين.. وفي خطوة تمثيلية أعلن فلاديمير بوتين في 14 آذار 2016 أن روسيا بدأت بسحب الجزء الرئيس لقواتها العسكرية من سورية؛ في حين بقيت نقاط تمركز باقي قواتها ـ البحرية في طرطوس والجوية في مطار حميميم ـ تعمل كالمعتاد، وربما بوتيرة أكبر. لكن، لم يكن كل هذا سوى بروباغندا رخيصة؛ لأن بقاء، حتى ولو جزء صغير منها، يضع كل سورية تحت فعالية تهديدها المباشر والمستمر!
بين ليلة وضحاها، أصبحت روسيا ـ التي أكنَّ لها الشعب السوري في السابق كل الاحترام والتقدير ـ دولة معادية؛ لا تختلف بشيء عن الدول الأخرى المتربصة بهذا الشعب ـ مثل إسرائيل وإيران ـ بل، ربما تكون عدائيتها الجديدة أقوى وأشد خطراً، لأن طبيعة دفاعها المستميت عن الأسد ونظامه لم تحمل أبعاداً اقتصادية وجيواستراتيجية فحسب ـ كما صور ذلك أغلب المحللين والمراقبين والصحفيين ـ بل حملت بين طياتها جذوراً دينية عقائدية دفينة. لقد خافت روسيا كثيراً من تحول "الربيع العربي" إلى "ربيع روسي"؛ ليتكرس وتصل نسائمه إلى زواياها الداخلية المعتمة، أو إلى عمق مجال مصالحها الجيواستراتيجي في آسيا الوسطى وجمهوريات القوقاز الجنوبي، حيث الموروث الثوري التمردي كامن تحت رماد السنين الطويلة من الديكتاتوريات الأوراسية البغيضة...
عملت روسيا على كبح جماح الثورة السورية وإخماد لهيب نارها ضمن حدودها الجغرافية، كي لا تنتقل أبعد فأبعد؛ واستغلت الأحداث هناك لتعوض ما فاتها في منع زهور "الربيع الشامي" من التفتح حتى ولو في مواعيدها المتأخرة، وتحوله في النهاية إلى شتاء دموي يحمل في طياته جليداً سيبيرياً قاتلاً...
لقد اعتُبرت سورية العمود الفقري في سياسات موسكو الشرق أوسطية، ونقطة دفاعية متقدمة لها أمام خطر تقدم الإسلام الجهادي (السنّي) الذي اندفع حينها من عقاله نحو كل الجهات، ونقطة الوصل بين الامتدادين العربي والإسلامي في آسيا وأوروبا عبر البر والبحر، اللذينِ يشكّلان الخطر الأكبر على مستقبل الوجودية الروسية في حدودها الحالية... نشر الكاتب والروائي اليساري ألكسندر بروخانوف مقالاً بعنوان "سورية - المفتاح الذهبي للشرق" في جريدته "زافترا" (الغد) بتاريخ 20 كانون الأول 2006، أكد فيه أهمية ذلك البلد بالنسبة لروسيا والعالم: "سورية هي حجر الزاوية الداعم لقبة الشرق الأوسط الضعيفة.. سورية، على المكشوف أو في الخفاء، تؤثر في النزاع العراقي، وفي توازن القوى اللبنانية، وفي الفلسطينيين والأكراد... تقارب سورية وروسيا هو الطريقة الأمثل لعودة الأخيرة إلى الشرق الأوسط، لكن ليس كحليف شامل للعرب، بل كلاعب حاذق وخفيف يستطيع الموازنة بين مصالح إسرائيل وأمريكا وأوروبا والصين الذين يعدون الشرق الأوسط النفطي منطقة مصيرية بالنسبة لهم.. وبالتأثيرات الخفيفة في الشرق الأوسط يمكن تحقيق تطورات هائلة في جميع القارات تقريباً!". لذلك، عندما حانت الفرصة المناسبة قامت روسيا باحتلال سوريا فعلياً، وسيطرت على قرارها السيادي، وتدخلت بشكل سافر في شؤونها الداخلية، وجعلتها حقلاً لتجارب أسلحتها وذخائرها الحديثة، وأكملت عملية تدمير عاصمتها الاقتصادية والتاريخية حلب التي بدأها إمعة الشام بشار الأسد...
إذاً، نحن أمام عدو غير تقليدي؛ عدو متصلب يجسد أبشع أنواع الاستبدادية الشرقية الظلامية الوصائية المقيتة؛ عدو خاض الحرب مع النظام ضد شعبه وبشكل معلن وواضح وصريح... عدو قدم كل شيء كي يوقف ثورة الأحرار وكفاحهم المسلح ضد أكثر الطغاة إجراماً وقسوة وجنوناً؛ عدو لا يهمه شيء، وقد قام هو نفسه سابقاً في جمهورية إيشكيريا، ويقوم اليوم في أوكرانيا، بأعمال شائنة لا تقل فظاعة وتنكيلاً عما يقوم به الآن بشار الأسد في سورية؛ إذ يكفي قراءة رواية الكاتب غيرمان سعدولايف "عصفور واحد لا يصنع ربيعاً"، حتى تتأكد من أن حكام موسكو ودمشق لا يختلفان قيد أنملة بإجرامهم ودمويتهم عن بعضهم!
نحن اليوم لا نقاتل بشار الأسد وحده، بل نقاتل استعماراً مركباً ـ سياسياً، دينياً، طائفياً، عقائدياً... ـ تتزعمه روسيا الطامحة بقيادة بوتين إلى إحياء المرامي الإمبريالية للإمبراطوريتين الروسية والسوفييتية، والعودة إلى الساحة الدولية بقوة؛ ولكن على حساب شعوب مسكينة تُذبح وتُقتل وتُدمَّر بيوتها وتُهجّر من مدنها وقراها... إن وقوف روسيا الفاضح إلى جانب بشار الأسد أعاد السمعة السيئة لها، حيث بدأ بعضهم باستخدام مصطلح "إمبراطورية الشر"؛ الذي أطلقه رونالد ريغان على الاتحاد السوفييتي في أواخر أيام الحرب الباردة!
لم يدرك الروس حتى الآن، كما أدرك العالم جميعاً، أن بشار الأسد يكذب ويراوغ ويجرم بحق شعبه؛ وأنه يخذل روسيا بتصرفاته الحمقاء.. لقد نسوا أن الشعوب وعلاقاتها الودية التشاركية هي التي تحمي الدول من التناحر والعدائية وتحفظها من السقوط والاندحار، وليس العلاقات بين القياصرة والملوك والرؤساء والزعماء والحكومات... لم تفهم القيادة الروسية البليدة يوماً ما حركة الشعوب التواقة للانعتاق؛ ولم تأبه يوماً لمطالبها المنادية بالحرية والكرامة، وحقها بالعدالة والمساواة والعيش الكريم... لم تحترم روسيا مطالب الشعب السوري في التغيير، ووقفت مع عصابة القتل والتدمير والتهجير؛ وهي بذلك لم تخسر هذا الشعب فقط، بل خسرت جميع الشعوب المحبة للازدهار...
لم يتوقع أحد من الشعب السوري أن تصبح روسيا دولة معادية إلى هذا الحد، وأن يتحول السلاح الذي اشتراه بماله، من أجل الدفاع عن البلد ضد أي عدو أو تدخل خارجي، إلى سلاح يقتله؛ وبمباركة الكرملين الرسمية.. لقد سقطت روسيا أخلاقياً ومعنوياً ليس في سورية وحدها، وإنما في كل دول العالم.. لقد فقدت شعبيتها واحترامها لدى الجميع وأصبحت دولة مكروهة من قبل أغلب الشعوب، لأنها تؤيد وتدعم المستبدين والطغاة في كل أرجاء المعمورة؛ ولم يبقَ لها سوى القليل القليل من الوقت حتى تنهار كلياً وتفلت من حساب التاريخ وإلى الأبد!
إذا كانت روسيا الممثلة حينها بالاتحاد السوفييتي، قد خرجت سابقاً من دول العالم بسبب انكفاء المد الشيوعي والاشتراكي وتغيّر الأنظمة والحكومات فيها، كما حدث في مصر وأفغانستان وإثيوبيا واليمن الجنوبي ونيكارغوا...؛ ومن ثم عادت بشكل أو بآخر. إلا أنها اليوم، وبعد الأحداث التي جرت في سوريا، وتجري الآن في أوكرانيا، ستخرج من هناك غير مأسوف عليها بفعل الشعوب؛ وهنا مكمن الخطر على روسيا الحالمة بإعادة أمجادها.. روسيا لقد اقترب السقوط!
التعليقات (6)