متصل الآن.. المؤشر الوحيد على نجاة السوري من أتون الحرب والتهجير ومعتقلات نظام أسد

متصل الآن.. المؤشر الوحيد على نجاة السوري من أتون الحرب والتهجير ومعتقلات نظام أسد

"كثيراً ما استوقفني هذا السؤال... لماذا نكتب؟.. هل لرغبةٍ في الشهرة أم لأن الأفكار والهواجس تكادُ تختنق فينا فنحاول إخراجها على شكل كلماتٍ تشبهنا، أم هي رسالةٌ لأحد ما بأننا ما زلنا على قيد الحياة؟ أو ربما لأننا نجد لذّة في الكتابة عن حيوات أشخاصٍ آخرين ونحن في الحقيقة نختبئ في زوايا تفاصيلهم اليومية، نلبس وجوههم ونمشي طرقاتهم ونستعير ألسنتهم لنكتبَ أفكارنا وأفكارهم معاً".

بداية تفتتح الكاتبة السورية "عبير غزالي" روايتها المعنونة بــ "متصل الآن" بالسؤال عن جدوى الكتابة، السؤال الذي يوازي معنى وجود الكاتب نفسه. إذ لا يُخلق النص مهما كان وجدانياً رتيباً أو عبثياً عمومياً إلا من رحم هذا السؤال. ومن العنوان الذي اتخذته الكاتبة عتبة لنصها الروائي تظهر الواقعية بوضوح، فحالة الاتصال الإنساني لا تقتصر على ما خلقته التكنولوجيا، بل وُجد الاتصال والتواصل منذ ظهور البشر على كوكب الأرض. 

تتناول "غزالي" في بداية روايتها التي جاءت بـ158 صفحة من القطع المتوسط، الحالة الاجتماعية السورية في مرحلة ما قبل الحرب، حيث تدخل في أصغر التفاصيل للعلاقات الاجتماعية، فتأخذ جزئية صغيرة وتبني عليها سردية أو حدثاً، وهذا ما يميز الكاتبة والكتاب أيضاً عن غيره؛ ففيه التقاطات تكاد تتجه من حيث الفكرة نحو الشعر. 

وما يُكسب العمل صبغة الواقعية اليومية هي اللغة المستخدمة، فقد استخدمت غزالي توليفة من العامية المحكية والفصيحة البيضاء كلغة للكتاب؛ لتجعله أقرب إلى الأحاديث اليومية. 

"هكذا هم الأزواج يبدؤون ارتباطهم بمشاحناتٍ دائمة واختلافٍ بالتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، إنّه العيشُ المشترك يجعل كلَّ العيوب تطفو على سطح الحياة اليومية، فيرى كلٌّ منهم الآخر على حقيقته دون رتوش "أنتْ ما نظفتْ الحمام مليح وأنتِ ما كويتي تيابي وأنتْ ما جبتلي كل أغراض البيت الي وصيتك عليهن وأنتِ طلباتك ما بتنتهي" ونظن أنّهُ ومع الاعتياد ومرور الأيام سيتعايش كلٌّ منهما مع شريكه، لكن عبثاً هي ذاتُ المشاحنات تتكرّر دائماً رغم معرفة كلّ طرف أنّ الآخر لن يتغير يوماً."

وقد استطاعت الكاتبة الدخول إلى مجتمعها من خلال المدرّسة "ملاذ" بطلة روايتها، وكان ضمير الغائب هو المسيطر على الجو العام تقريباً ما عدا الحوارات التي كانت باللهجة المحكيّة... والواضح للمطّلع على الرواية هو نسخ الكاتبة للشخصيات من الواقع المعاش، فملاذ الشخصية الرئيسة هي مرآة لكل أنثى سورية..

ولأن "غزالي" اعتمدت الواقع السوري ثيمة، لم تغفل عن استحضار الفقر وآثار الظلم الذي عاشه المواطن السوري في مرحلة ما قبل الثورة... وفي خضم مرويّتها استحضرت اليوميات المعاشة للطبقة المتوسطة والفقيرة. وأيضاً خصّت مساحات كبيرة من السرد لوصف الأماكن وصبت تركيزها على دمشق المدينة التي تعيش فيها وتشعر بالاغتراب عنها، فدمشق قبل بالنسبة لها ليست دمشق اليوم.  

وبالعودة إلى العنوان الرئيس وعن سبب اختياره، تتطرق "غزالي" إلى الواقع الافتراضي ووسائل التواصل على وجه الخصوص، فبعد أن تتعرف "أحلام" صديقة ملاذ المقربة على أحدهم عن طريق وسائل التواصل وتلتقي به حقيقة، تشعر بمدى زيف الصورة التي تصدّرها وسائل التواصل إلينا، وتصطدم بحقائق جديدة في حياتها وتكاد تكون في حياتنا جميعاً. 

وقد وضعت "غزالي" يدها على حالة الفصام التي نعيشها بين حقيقتنا وبين صورتنا التي نحاول تصديرها في الواقع الافتراضي:

"انفصامُ الأفكار، رؤيةٌ معاكسة لما نفعله، مرضٌ يعانيه معظمنا بين أفكارٍ تُقالْ وأفعالٍ تُعاشْ، تناقضٌ غريب يجعلنا نتوه عن حقيقتنا لنصبح مرايا ملتصقة كلُّ منها يدير ظهره للآخر."

كما تبيّن سبب مراقبة الأهل والعشاق والأصدقاء لحالة ظهور من يهتمون لأمره على منصات التواصل الاجتماعي فجملة "متصل الآن" تعني أن الآخر ما زال حياً وأنه يشاركك الهواء ذاته الذي تتنفسه، وفي فترة الحرب أصبحت لها أهمية حيوية فقد صارت مرادفة لحرية الإنسان ونجاته من الموت.

ثم تتوالى الفصول لتشرح الوضع السوري في مرحلة بداية ثورات الربيع العربي، وما بعدها حتى وصول سوريا إلى عمق الحرب، وهنا تحاول الكاتبة إيصال فكرة التغيير الحاصل على مستوى العلاقات الاجتماعية ضمن نسيج المجتمع السوري وإلى أي مدى كانت الحرب إشارة فارقة بين ما قبل وما بعد... 

لم تتطرق الكاتبة "عبير غزالي" إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية لتبرهن عن مدى اطلاعها أو ولوجها في عمق الكارثة، بل اكتفت بالتطرّق إلى الحالات والعلاقات الإنسانية وما خلّفته من أزمات نفسية وتصدّعات في العلاقات بين مكوّنات المجتمع السوري على صعيد الأسرة والأصدقاء.

وقد يظهر بوضوح حمل الكاتبة الهم السوري وتصويره، كأنها أرادت لهذه الصورة أن تترسّخ في الذاكرة، إلا أنها لم تحدد اصطفافاً سياسياً محدداً بل كان همها الإنسان السوري المظلوم أينما كان... 

"ينهون ترتيب هجرتهم الأولى على خلفية درامية لمحطات فضائية لا تهتمُّ لدمائهم التي تُراقُ بدمٍ بارد، أصبحت مأساتُهم مادّةً دسمة يتلذّذُ بها الجميع، الكلُّ يقارب الحقيقة ولا يطرقها، تفسَّخت الأقنعة لتظهر الوجوه على حقيقتها، وحدُهم أصحاب الحناجر النافرة دفعوا الأثمان مضاعفة بين جدران السجون أو جدران المقابر."

في حين لا تستثني "غزالي" من روايتها الجزء الذي اضطر للخروج من وطنه، فاتجهت لتعرية وجه الغربة القبيح، وذلك من خلال تواصل الأهالي مع أبنائهم أو أقاربهم الذين دفعتهم الحرب إلى الخروج.

وفي النهاية لا تذهب الكاتبة نحو إيجاد مخرج درامي يُنهي الحكاية التي تطرقت إليها، بل تركتها مفتوحة على الهزائم والمصائب كما هو الحال بالنسبة للواقع السوري.

"تمضي الأيام على ذلك اللقاء والجميع في انتظار معجزة لم تحدثْ. 

تقفُ ملاذ عند باب شرفتها التي تدير ظهرها لجبلٍ كان شاهداً على كلّ ما حدث، تشرب قهوتها وتمسح دموعها، تنظر إلى بلادٍ أصبحت خارج الخدمة، بلادٌ تحتاج إلى دم جديد حتى تستعيد عافيتها وتصحوَ من سباتها الذي دخلتْ فيه مرّة ثانية."

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات