لم يتعرض شعبٌ على مدى التاريخ البشري، لما تعرّض ويتعرّض له الشعب السوري الأمس واليوم، وربما إلى مراحل زمنية غير منظورة!.
وإذا تغاضينا عن حجم الظلم في الداخل، وحجم الدمار والموت والمجازر، واعتبرنا النتائج المخزية تلك خسائر حرب، فالنتائج الأقسى كانت على صعيد التهجير القسري لغالبية الشعب السوري، والتشرد في الداخل وفي الخارج كذلك.
هذه التغريبة السورية الفادحة التي انتشرت على امتداد مساحة العالم، لم يشهد التاريخ الحديث ولا القديم مثيلاً لها، إنْ من حيث العدد، أو الوسيلة، أو الحال الواقعي المأساوي الذي يعيشه السوريون في دول اللجوء.
السوريون الذين ظلوا في الداخل، إما مُجبرون، أو مضطرّون بحكم الواقع المفروض على الوطن السوري ككل، من حيث التقسيمات السياسية والديموغرافية، والعرقية أيضاً، ومن حيث الانتماءات الدينية والمذهبية للبعض، هم مجرّد رهائن لواقع الحال الدولي والمحلي، وورقة تلعب بها كل الأطراف المتصارعة، وهي بطبيعة الحال أطراف دولية ذات أطماع حالية ومستقبلية، حوّلت النظام السوري ككل إلى مجرد بيدق يصطفّ مع الجهة التي تعطيه الأمل بالبقاء والخلود على كرسي منخور حتى الجذور.
والسوريون الذين خرجوا إلى الشتات إما مطارَدون سياسياً، أو هاربون من القصف الصاروخي على مدنهم وقراهم، مرّوا في تنوعات كارثية لهذا الرحيل المُوجع، تاركين خلفهم البيت والرزق وأحياناً كثيرة العوائل والأهل تحت رحمة الذين لا يرحمون.
المفوّضية العليا للاجئين سجّلت لغاية اليوم أكثر من 8 ملايين لاجئ توزّعوا ما بين دول الجوار وأوروبا.
وهذه الإحصائية لا تشمل الهاربين والمنتشرين في العديد من المنافي خارج قيود اللجوء الرسمي، ولا تشمل مئات الآلاف من الذين قضوا في البحر والغابات ساعين إلى خشبة خلاص لم يرمِها إليهم أحد!.
في بدايات اللجوء خاصة العام 2012، كانت أحضان الدول الداعية لاستقبال الهاربين من الموت مفتوحة بالترحاب والتعاطف، ثم تغيرتِ الحالُ حين تحوّل اللاجئون إلى ورقة سياسية لعبتها باحترافية عالية جهات معارضة للجوء في تلك الدول، خاصة اليمين المتطرف في أوروبا والذي حمل تلك الورقة ليكسب من خلالها الرأي العام من خلال إثارة المخاوف من تلك الحشود التي جاءت لتستوطن وتأخذ أماكن سكان تلك المناطق.
وإذا كانتِ القارة العجوز قبلت بما يقارب مليون لاجىء في البدايات، فهي فعلتْ لحاجتها إلى الدم السوري الشاب والفعال لإعادة ضخ الحياة في كيانها العنّين.
في حين قبلت دول الجوار كالأردن ولبنان وتركيا والعراق باللاجئين، لأنها من خلال هذا القبول حققت صفقات بلا حدود، واكتسبت الميزانيات الكبيرة مادياً ومعنوياً، مع أنها أبقت اللاجئين في مخيمات البؤس واللاحياة.
وكما الحال مع ورقة النظام السوري المتأرجحة بين أطماع روسيا وإيران، والصراع بينهما على السلطة والنفوذ في المنطقة ككل، ومتعلقات الصراع الدولي بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة وروسيا، والرابح الأكبر الكيان الإسرائيلي العدو المرتاح تماماً لكل ما يحصل حوله في دول الجوار المفترض أنها دول مواجهةٍ له، وهي كذلك في المعلن، وليست في باطن التحالفات، كما هي الحال مع ورقة النظام في الداخل السوري، يكون الحال مع اللاجئين والتلاعب بمصائرهم كورقة ضغط لأحزاب متنافرة ومأزومة في لبنان، أو تركيا، والتهديد المتواصل بإعادتهم إلى بئس المصير، أو إعادة انتشارهم في المزيد من منافي الضياع.
اليوم على سبيل المثال يتجاوز عدد السوريين المقيمين في تركيا، سواءٌ أكانوا "لاجئين" أو "سياحاً" أكثر من أربعة ملايين شخص، ويتركز العدد الأكبر منهم في إسطنبول، لتتبعها ولاية شانلي أورفة الحدودية، وولايتا غازي عنتاب وهاتاي.
بعضهم حمل الجنسية التركية، والبعض يتابع حياته بإقامة شرعية، لكن الجميع اليوم يعيشون تحت ضغوط وتهديدات واعتداءات يقوم بها معارضون كثر للوجود السوري هناك، هؤلاء يندرجون ضمن خانة "المناكفات السياسية" التي تدخل بها أحزاب المعارضة مع الحكومة التركية و"حزب العدالة والتنمية" الحاكم.
وفي لبنان نرى الوضع أشدّ إيلاماً، حين يتم التعامل مع السوري أيّاً يكون لاجئاً، أو مقيماً أو سائحاً كذيلٍ لجيش محتلّ وإن سابقاً بالبندقية والعسكر، وحالياً بأحزاب وجِهات ما زالت تنام هانئة تحت مظلة التحالف مع النظام السوري، فلا يسلم السوري من تلك الجهات باعتباره معارضاً لنظام البعث، أو باعتباره موالياً ويقاسم اللبنانيين رغيفهم وحياتهم، وهم يعيشون في أسوأ مراحل تاريخهم من تشتت وشرذمة وانكسار اقتصادي مخيف.
اليوم ترتفع الأصوات خاصة في تركيا ولبنان بإعادة اللاجئين إلى مناطق هم يرونها آمنة، وواقع الحال يقول إنه لا أمان لغاية الآن على امتداد الخارطة السورية، والخوف أن تكون هذه العودة بالقوة والإكراه، فيتم حينها تقديم مئات الآلاف من الضحايا الجدد، ليكونوا أطباقاً شهية على موائد القتل الجماعي.
في بدايات الثورة والأزمة السورية، تعاملت دول العالم بشكل مختلف مع مسألة اللجوء، فكم كانت أوروبا حنونة في دعوتها لهم، وحنونة كانت الولايات المتحدة، والحكومة البريطانية، وكم كان حنوناً قداسة البابا وهو يطلب من كل رعية تتبع الكنيسة الكاثوليكية احتضان عائلة سورية.. العالم كله كان يحبنا وقتها، والعواصم تفتح أبوابها، والأكيد أن الهدف الرئيس كان إفراغ سورية من أبنائها، ليكون كل ما يحيط "بإسرائيل" ضعيفاً وهشّاً، وحصل ذلك، وبدأ النزوح، وامتلأت المطارات والقطارات والقوارب والبواخر بالمهاجرين الهاربين من القتل والموت اليومي.
يا حبيبنا الغرب، يا حبيبتنا ألمانيا وفرنسا وأستراليا وبريطانيا وتركيا واليونان وسائر المغرب، نقدّر لكم كثيراً هذا الحنان الكبير، لكن كان بإمكانكم توفير الكثير من التعب على المهاجرين. الكثير من المغامرات التي تنتهي بالموت والغرق والضياع، بدل أن تأخذوا الشعب السوري إليكم، اتركوه في سورية وخذوا جماعة النظام. لو غادرت سورية فأعدكم أنه لن يقصدكم من السوريين أحد.
خذوا النظام، خذوه لاجئاً، سجيناً، سائحاً، خذوه حياً أو ميتاً، إلى جهنم الحمرا لو أردتم، عندها ستوفرون الكثير عليكم وعلينا، وإلا فسنعتقد أن عاطفتكم نحونا مُريبة بامتياز.
التعليقات (5)