محفّزات قوية وألغام على السكة.. هل تعثر قطار التطبيع بين أنقرة ودمشق؟

محفّزات قوية وألغام على السكة.. هل تعثر قطار التطبيع بين أنقرة ودمشق؟

على عكس التيار الدافئ الذي ساد أجواء العلاقة بين أنقرة ودمشق، بثت التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين هنا وهناك أنواء باردة في هذه الأجواء، الأمر الذي أعاد إلى الواجهة سؤالاً كبيراً حول ما إذا كان يمكن لقطار التطبيع بين تركيا ونظام ميليشيا أسد أن يتعرقل، وما هي الشروط التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك؟

في العشرين من تموز/يوليو الماضي، وخلال عودته من قمة دول مسار أستانة، التي عُقدت في العاصمة الإيرانية طهران، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحاً تاريخياً طالب فيه القوات الأمريكية الموجودة في سوريا بالانسحاب.

كان ذلك مؤشراً لا يمكن التقليل من أهميته على تحول عميق في التوجهات التركية حيال الملف السوري، لكن هذه التوجهات أفصحت عن نفسها بوضوح بعد القمة الثنائية التي جمعت أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في مطلع أب/اغسطس 2022، حيث أطلق القادة والمسؤولون الأتراك، بمن فيهم الرئيس ووزير الخارجية، سلسلة تصريحات أكدوا خلالها البدء بتطبيع العلاقات مع حكومة نظام أسد.

صافرة الانطلاق

يعتقد الكثيرون أن الروس والإيرانيين أقنعوا الأتراك بهذا التحول خلال القمتين وما تلاهما، لكن مصادر تركية كانت قد كشفت ل"أورينت نت" في حزيران/يونيو المنصرم أن مستشاري الرئيس أردوغان قدموا توصية بضرورة العمل على تطبيع العلاقات مع دمشق من أجل سحب هذه الورقة من يد المعارضة، التي أعلن عدد كبير من أحزابها أنه سيُعيد العلاقة مع نظام أسد فور فوزه بالانتخابات العامة في تركيا المقرر إجراؤها الصيف المقبل، خاصة أن الرأي العام التركي يؤيد ذلك، ويعتبر أنها خطوة لا بد منها لإعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلادهم.

إلا أن الكاتب والمحلل السياسي السوري المعارض باسل معراوي، يرى أن التغيّر في التوجهات التركية يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، وتحديداً إلى نهاية العام 2015 وبداية العام 2016، عندما كادت أن تدخل أنقرة في صدام عسكري مع موسكو بعد لإسقاط الدفاعات الجوية التركية طائرة حربية روسية على الحدود مع سوريا، واتخاذ الغرب وحلف الناتو موقفاً رخواً بمساندة الأتراك، وصولاً إلى سحب بطاريات الصواريخ الدفاعية "باتريوت" التي كان ينشرها الحلف على الأراضي والحدود التركية بعد ذلك بوقت قصير، الأمر الذي فرض على حكومة حزب العدالة والتنمية أن تُعيد ترتيب أوراقها وفق هذه المعطيات بما يتعلق بالقضية السورية.

لكن وبغض النظر عن التوقيت والدوافع، فإن قطار التطبيع انطلق رسمياً وبشكل علني بين الحكومة التركية ونظام أسد في آب/أغسطس المنقضي، مع الإعلان عن اتصالات بين الجانبين من أجل ترتيب ملفات التفاوض، ومن ثم الكشف عن زيارة أجراها حقان فيدان، رئيس المخابرات التركية إلى دمشق منتصف أيلول/سبتمبر الجاري، وما رافق هذا الحراك الدبلوماسي من تفاعلات وتصريحات وضجيج أوحى بأن عودة العلاقات الكاملة بين أنقرة ودمشق باتت قاب قوسين أو أدنى.

خروج عن المسار

لكن فجأة وخلال وجود وفدي الحكومتين في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبّر كل من فيصل المقداد وزير خارجية نظام أسد، وإبراهيم كالن المتحدث باسم الرئاسة التركية، عن تخفيض سقف الطموحات والتوقعات حيال محادثات إحياء العلاقات بين الجانبين.

فالمقداد أكد من ناحيته عدم وجود اتصالات على مستوى وزارتي الخارجية بين البلدين حول تطبيع العلاقات، محملاً تركيا المسؤولية عن تعثر المحاولات الساعية إلى ذلك.

وأضاف في لقاء مع وكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك" أنه يتوقع "المزيد من الجدية في الوفاء بالوعود التي قطعها الجانب التركي في مسار أستانا" باعتباره "الإطار الوحيد لحل النزاع في سوريا".

بدوره قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، لإذاعة" NTV" التركية: "إن الاتصالات مع النظام السوري تجري حتى الآن على مستوى أجهزة المخابرات فقط"، نافياً أي خطط للتواصل السياسي مع دمشق في الوقت الحالي.

لكن أكثر التصريحات إثارة بهذا الخصوص وأقواها على الإطلاق، جاءت على لسان إلنور شفيق، كبير مستشاري أردوغان، الذي قال في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز عربية" إنه "ليس هناك تقارب بين بلاده وسوريا"، وإن لم يستبعد حصول ذلك لاحقاً، بالنظر إلى "الوقائع الجديدة التي يجب أخذها بعين الاعتبار والتعايش معها".

حاولت "أورينت نت" التقصّي عن أسباب هذه اللهجة التي طبّعت حديث الطرفين، ومعرفة ما إذا كان هناك طارئ قد دفعهما للإدلاء بتصريحات مغايرة للسياق الذي تجري فيه الترتيبات لإعادة التطبيع بينهما، إلا أن المعلومات كانت شحيحة جداً.

مصدر في الإئتلاف أكد أنه وقبل سفر وفد المعارضة إلى الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الدورة 77 للمنظمة الدولية، تلقوا تلميحات أو مطالب غير مباشرة من قبل تركيا للجلوس مع ممثلي النظام، لكن تم الاعتذار منهم والتأكيد على أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا في إطار عملية تفاوضية ترعاها الأمم المتحدة، وهو أمر تفهّمه الأتراك وكانوا إيجابيين حياله كما يقول.

وبخصوص عقد أي لقاء بين وزير خارجية النظام فيصل المقداد والمسؤولين في وزارة الخارجية التركية الموجودين في أمريكا حالياً، أكد المصدر أنه وحسب المعلومات فإن مثل هذا الاجتماع لم يحصل حتى الآن.

فرملة

وبينما يسود الغموض هذا المشهد، فإن الواضح هو عدم تحمّس كل من دمشق وأنقرة لإنجاز هذه الخطوة دون حصول كل منهما على تنازلات جدية ووازنة من الطرف الآخر.

ويبدو أن قضية الانسحاب التركي من الأراضي السورية تُشكّل العائق الأبرز أمام قطار التطبيع، حيث يشترط نظام أسد انسحاباً كاملاً بينما يقول الأتراك إن لديهم اتفاقين سابقين بهذا الخصوص، الأول مع دمشق يعود لعام 1998، والثاني مع موسكو تم التوصل إليه عام 2019، وكلاهما يسمحان لجيشها بالتوغل في سوريا، وعليه فهم لا يرتكبون أي خطأ يتطلب الإصلاح على هذا الصعيد.

لا يعني ذلك أن هذا كل ما بين الطرفين من خلافات، لكن هذا هو اللغم الأكبر بين القنابل الموقوتة التي يمكن أن تفجّر السكة بينهما في أي وقت، ومن الواضح أن انشغال القيادة الروسية بالأزمات التي تواجه جيشها في أوكرانيا مؤخراً أثّر على سير القطار على خط أنقرة-دمشق، خاصة وأن كثيراً من المراقبين يعتقدون أنه لولا الضغوط الداخلية على القيادة التركية، ولولا رغبة هذه القيادة بمجاراة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حالياً، لما أقدمت على هذه الخطوة، وهذه النقطة تحديداً تعتبر قاسماً مشتركاً يجمع الحكومة التركية مع نظام أسد الذي يبدو أن انشغال موسكو بمشكلاتها الأوكرانية منحه فرصة المناورة للإفلات من الضغط الروسي عليه من أجل إنجاز التطبيع مع تركيا.

المضي قدماً

إلا أنه ومع ذلك، يرى الكاتب والمحلل السياسي التركي هشام جوناي أن قطار التطبيع ماض وهو قرار اُتخذ على أعلى المستويات، رغم ما قد يواجهه من مشاكل تقنية أو تفاوضية.

ويقول في تصريح ل"أورينت نت" حول ذلك: لا أرى أن هناك ما يمكن أن يعرقل التوجه التركي للتطبيع مع النظام في سوريا، لأن هذا التطبيع يأتي كثمرة من ثمرات العلاقة الجيدة التي تجمع أنقرة وموسكو اليوم، والتي هي نتيجة العلاقة المميزة التي تربط الرئيس أردوغان وبوتين، اللذين التقيا ثلاث مرات خلال شهرين، في موسكو وسوتشي وسمرقند.

ورداً على سؤال حول التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم الرئاسة التركية وكذلك مستشار أردوغان، حول عدم وجود تقارب بين أنقرة ودمشق حالياً، وأن الاتصالات هي على المستوى الأمني فقط، يقول جوناي: في النظام الرئاسي فإن ما يقوله الرئيس هو ما يؤخذ كمؤشر فعلي، وبالنسبة للعلاقة مع النظام السوري فليس هناك أوضح من تصريح أردوغان الذي يؤكد على التوجه نحو التطبيع عندما قال إنه كان مستعداً للقاء بشار الأسد فيما لو حضر الأخير قمة شنغهاي، أضف إلى ذلك، يتابع جوناي، الخطوات الملموسة التي بدأت تتخذها أنقرة بهذا الخصوص، ومنها فتح المعابر بين مناطق نفوذها في سوريا وبين مناطق نفوذ النظام، وهي أبعد من مجرد الاتصالات الأمنية فقط.

بين الاستراتيجي والجاهزية الفنية

لكن هل يكفي فتح معبر بين المنطقتين في الشمال السوري للقول إن هناك مؤشرات على مضي قطار التطبيع بين دمشق وأنقرة قدماً، رغم التصريحات السلبية حيال هذا الملف من قبل كل من النظام وتركيا؟

سؤال قد تتباين الإجابات عليه، لكن ما لا يمكن الخلاف حوله هو أن الجدار الذي ارتفع بين أنقرة ودمشق على مدار عقد من الزمن قد تداعى، والسكة يعاد ترميمها، لدرجة أن كبير مسؤولي المخابرات التركية قد حطّ في دمشق مؤخراً، وعليه فإن كل ما سيأتي، سيأتي تراكمياً وعلى خطوات، كما يعتقد الكثيرون، ومنهم الدكتور باسل معراوي، الذي يقول "إن مسار التطبيع بين الجانبين لن يتعرقل".

ويضيف في حديث ل"أورينت نت": إن هكذا قرار هو قرار الدولة التركية كلها وليس حكومة العدالة فقط، إذ لم تعترض عليه أيّ من مؤسسات الدولة (المدنية أو الحزبية أو الأمنية او العسكرية)، ولكن يمكن البدء بملفات أصغر غير إشكالية لتعزيز الثقة بين الطرفين، مثل فتح المعابر بين مناطق سيطرة قوات النظام وقوات المعارضة، ومناكفة الأمريكان باختراقات جزئية لقانون قيصر، إضافة إلى رفع مستوى التنسيق الأمني وفتح طرق الترانزيت بين تركيا والأردن عبر الاراضي السورية. 

ويضيف: ترى تركيا أن سوريا مهمة كجغرافية سياسية واقتصادية وأمنية لها، وهذا ما يحدد سياسة أنقرة المستقبلية في جارتها الجنوبية، وبرأيي فإن تركيا تسعى لوقف إطلاق نار شامل يُتيح تحقيق المنطقة الآمنة واقعياً وعلى الأرض، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لعودة المليون لاجىء وهو أولوية قصوى بالنسبة للحكومة اليوم.

وحول ما إذا كانت تطورات الحرب في أوكرانيا قد تُغيّر من كل ذلك يقول معراوي: لا شك ستتأثر وتيرة تطورات العلاقة بين تركيا والنظام بنتائج الحرب الروسية على أوكرانيا، وكذلك تطورات مفاوضات الملف النووي الإيراني من حيث التباطؤ أو التسارع، لكن الخطوة التركية بالانفتاح على دمشق وتبريد التوتر معها هي خطوة استراتيجية في النهاية.

رغم كل المعطيات السابقة، إلا أن الكثيرين ما زالو يعتقدون أن قرار التطبيع التركي مع نظام ميليشيا أسد هو مجرد تكتيك ومناورة فرضتهما الظروف الداخلية ومتطلبات العلاقة المتقدمة اليوم مع روسيا، ويقول هؤلاء إن العقبات والتعقيدات التي ترشّح الفشل أكثر وأقوى من المحفزات وعوامل النجاح.. لكن هل هذا يكفي للتعويل على فرملة قطار التطبيع بينهما؟

سؤال معقد، الإجابة عليه تبقى مرهونة بتطورات ملفات عدة، لكن يبقى استعداد النظام للمضي قدماً في هذا التوجّه هو أهم عوامل وصول قطار التطبيع إلى محطته النهائية، ولذلك يصبح السؤال الأهم هو إلى أي مدى يريد الطرفان بالفعل إنجاز التطبيع، وما هي التنازلات التي يمكن لأي منهما تقديهما من أجل ذلك.

التعليقات (2)

    حشرهم الله

    ·منذ سنة 6 أشهر
    معا يوم القيامة مع الروس والايرانيين والغربيين ومنافقي العرب وفضحهم بالدنيا ان شاءالله

    وكان

    ·منذ سنة 6 أشهر
    أمريكا تبخرت من شرق سوريا.... أين الموضوعية في التحليل....
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات