(حقيبة لاجئة) لحورية عياش: حكايات وحشية نظام أسد وتغريبة المرأة السورية

(حقيبة لاجئة) لحورية عياش: حكايات وحشية نظام أسد وتغريبة المرأة السورية

لكل منا قصة، ربما تستحق أن تُسمع وربما لا، هكذا تقول الحقيقة، لكن حين نشترك بأحداث قصتنا مع كثير من الناس، وحين تتقاطع آلامنا مع ملايين البشر، هنا يجب علينا أن نسرد القصة لكي نوصل أصوات من لا صوت لهم، أو من لا يملكون أدوات إيصال الحكاية. 

اختارت الكاتبة والقاصة السورية حورية عياش أن تكون ذاتُها منصةً تعبر من خلالها أصوات المستضعفين، حكايا الموت الصامت، والعذابات المخبأة، فأطلقت مؤخراً مجموعتها القصصية "حقيبة لاجئة"، وقبل أن تباشر في فرد محتويات حقيبتها قالت: "لصنع الذاكرة، كان لا بد من الكتابة، كأداة لحفظ وتوثيق مشاهد مرت وتمر في بلد تختمر فيه المآسي على وقع الحرب، وتنضج فيه الخيبات حد التعب، فلا يكبر أبناؤه وبناته سالمين من أسئلة الهوية، ومتاهات المجتمع المنهكة".

تلسكوب على معاناة المرأة السورية

سلطت عياش الضوء في مجموعتها على معاناة المرأة السورية، فكانت معظم الشخوص الرئيسة والأحداث تتناول حالات كانت الأنثى فيه محور الحكاية. ربما استخدمت في بعض المواضع حالة الإسقاط باستحضار قصص حصلت قبل عقد من الزمن، وصنعت منها مقاربة على أحداث وشخوص تجري في الحاضر. 

كما أفردت مجالاً لحالات معاناة المرأة في مخيمات النزوح واللجوء وتعرضها للاغتصاب، هذا بالإضافة إلى زواج القاصرات والأعمال الشاقة التي أُجبرت المرأة على العمل فيها لتأمين قوتها وقوت أولادها. ولم تغفل عن رصد حركة النزوح الداخلي "ضمن حدود البلاد" والإذلال الذي تعرض له النازحون، والمرارة التي تأتي من كونك تعيش بين أهلك وناسك ورغم ذلك تشعر بغربة قاتلة إلى جانب اضطرارك لتحمل الموالين لنظام أسد وعدم قدرتك على التعبير عن رأيك بحرية.

"توقفت الفتـاة عـن الـسرد للحظات لترفـع منديلهـا وتمسح دموعها المنهمـرة بلا انقطاع. لكـن آلامـي أنـا وأوجاعـي وانكساري وأنـا أسـتمع لابنـة بـلـدي لن تُمحى، حتـى لـو أفرغت عليهـا السـماء أمطارهـا كلهـا. فقالـت بعـد تنهيـدة وجـع: قـال لي صاحـب المطعـم إن أمـي موافقـة بـشرط أن توافقـي أنـت فأدركت أني ذُبحـت ثـلاث مرات، مـرة عـلى يـد بشـار الأسـد عندمـا نزحنـا، ومـرة عـلى يـد ذاك المغتصـب في المخيـم، وآخرهـا عـلى يـد أمـي.."

وفي هذا الإطار أتت "عياش" بصورة واضحة ومباشرة من دون تجميل لمشهدية المعاناة السورية، على عكس معظم من يكتبون في هذا النوع الأدبي، وعلى الرغم من ذلك لم تخلُ قصصها من الفنية والتكنيك الأدبي، بل استطاعت المراوحة بين هذا وذاك.

ومن الملاحظ نزوح القاصة نحو إفراغ ذاكرتها التصويرية، فالسوري الذي يلج المجموعة لا بد أن يجد قصة تشبه قصته، وأحداثاً مرت معه، ومن المؤكد سيلتحم بذاكرته مع النص وكأنه يعيد شريط ذكرياته، فقد اختارت "عياش" الخوض في تفاصيل كل ما حدث، وما زال يحدث، بطريقة عرض سينمائية طاعنة في الواقعية إلى قعرها. 

لا يجف الحبر عند مواقف كهذه، بل امتد ليروي معاناة أطفال سوريا، وما خلفته الحرب من مآسٍ على هذه النفوس الصغيرة الرقيقة، فرصدت حالات اليتم، التشرد والجوع، وانعدام أدنى مقومات الحياة لهؤلاء الأطفال.

دير الزور ثورة ونقمة ورحيل

وفي عدد من قصصها المؤلفة من 32 قصة، ترصد الكاتبة أو تفرد جزءاً كبيراً لمدينة دير الزور؛ فتواكب الثورة هناك منذ بداياتها، تضمد جراح المتظاهرين الذين جابهتهم آلة الأسد الوحشية، تدور بكاميرتها ضمن الأحياء وبين الناس، تسرد بدايات تشكيل "الجيش الحر" هناك، ثم تحريره لكثير من مناطق المحافظة، ولا تتوقف عن سرد الأهوال التي كابدها الأهالي بعد سيطرة تنظيم داعش على معظم المحافظة وريفها. ومن هنا تنتقل إلى رواية حكايا النزوح والرحيل القسري، والتي تعتبر بحسب رؤية الكاتبة جزءاً لا يتجزأ من سردية العذاب السوري.

وربما التركيز على دير الزور كمكان يأتي من معايشة الكاتبة، إلا أنه من جانب آخر يُعتبر إسقاطاً على مدن وحالات وأحداث حصلت على عموم الأرض السورية، وكل من عايش تلك المرحلة يدرك وجه الشبه في تعامل النظام الوحشي مع الشعب، ثم فيما بعد تضييق ميليشيات "الأمر الواقع" على رقاب الناس وأرزاقهم والذي دفع ما يقارب نصف الشعب السوري لترك أرضه.

"غـادرتُ المدينـة أنـا وزوجـي وابنـي عنـدمـا علـم الجميـع بـأن الـحـرس الجمهـوري سيهاجم المدينـة بـأي وقت. كان النظـام نـاقـماً عـلى تلك المدينة التي لحقت بركـب المـدن الثائرة. طلبـت مـن زوجـي الرحيـل بسرعـة حـالي كحال الكثيرين، خوفاً مـمـا قـد يحصـل مـن ردود أفعـال قـوات النظام، وكأننـا نهـرب مـن غـزاة أغـراب سيستبيحون مدينتنـا."

الشفافية والسلاسة والبعد عن الزخرف اللغوي، سمة بارزة في الخطوط السردية التي عملت عليها القاصة، بالإضافة إلى الواقعية التي قد تحسب على الكاتبة لقرب العمل بمجمله إلى الحالة التوثيقية التصويرية، فإحدى ركائز جمالية فن القصة هو اللجوء إلى الخيال، أما في حالة "حقيبة لاجئة" فقد حلت الواقعية مكان الخيال الأدبي، حيث يصعب على أيٍّ كان أن يتخيل وقوع هذه الأهوال في واقع ممتلئ بممارسات وانتهاكات وحشية صارت سمة ما بعد عام 2011.

الموت.. يوم جديد!

من المؤكد يُعتبر الموت نتيجة حتمية ربما مريحة في حالة الإنسان السوري، إلا أن "عياش" لم تضعه كنهاية، بل مثلما حصل في الواقع، صار الموت تفصيلاً يومياً يعبر من أمام الناس ومن خلف ظهورهم من دون أن ترف أجفانهم، لاعتبارات أن الموت المتكرر الذي تقمص شكل حياة الإنسان السوري، أصبح أكثر رهبة من الموت الحقيقي.

لعله -الموت- يأخذ صفة فراق من نحب، فراق الأرض والبيت، العبور على الذكريات ورميها في طريق اللجوء، محاولات التأقلم مع حيوات جديدة، وربما يأخذ شكل يوم جديد تحت خيام الشتات.

وأخيراً نستطيع تصنيف "حقيبة لاجئة" على أنه عمل من المرأة السورية إلى المرأة السورية، يروي بكل صدق معاناتها، أزماتها النفسية والمطبات الأخلاقية التي وجدت نفسها محاطة بها، فلا هي قادرة على التقدم أو التراجع، وقد وجدت "حورية عياش" نفسها في مكان كل امرأة سورية لم تستطع أن تصرخ بأعلى صوتها معبرة عن الثقل الذي يرزح على روحها، فأرادت أن توصل هذه الصرخة بأدواتها الخاصة.

عن الكتاب والكاتبة:

• جاء الكتاب في 147 صفحة من القطع المتوسط وهو صادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا.

• حورية عيّاش: كاتبة وقاصّة سورية، من مواليد محافظة دير الزور، عايشت تجربة الاعتقال في سجون نظام أسد قبل أن تحمل ما تبقى من وطنها في حقيبة وتهاجر كلاجئة إلى ألمانيا.

 

التعليقات (1)

    محسن

    ·منذ سنة 7 أشهر
    نظام مجرم قاتل
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات