حسيب الزيني في أولى مجموعاته القصصية (دوبامين): أبطال مأزومون ولاجئون عاجزون عن الاندماج

حسيب الزيني في أولى مجموعاته القصصية (دوبامين): أبطال مأزومون ولاجئون عاجزون عن الاندماج

قد يجول في خاطرك وأنت تطالع قصة أو رواية ما، أن تتمثّل البطل، أو أنك تتخيّل نفسك مكانه، خاصة إذا كانت هذه الشخصية تقترب من تكوينك الخُلقي والخَلقي، ولكن ما يجعلك مصدوماً أحياناً على عكس ما أسلفتُ ألا تتمنى وأنت تقرأ أن تكون مكان البطل، أو أنك تتمنى أن تكون مثله.

قصص الأبطال المأزومين

يحدث هذا عندما تقرأ قصة أو رواية بطلها مأزوم لا يكاد يخرج من مصيبة حتى يدخل في أخرى، وهكذا تكون أنت القارئ مشدود الأعصاب طيلة رحلتك مع هذا النوع من القصص.

إن المجموعة القصصية المُعَنوَنة بـ (دوبامين) للكاتب السوري حسيب الزيني الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، تنحو هذا المنحى، ففي كل قصة تقريباً بطل مأزوم سحقته الحياة وجعلت منه ظل إنسان، وكأنّ الكاتب استشعر بحسه الفني هذه الزاوية في أبطاله، فعنون مجموعته بـ (دوبامين) وهو كما هو معلوم هو مادة كيميائية أو هرمون موجود بشكل طبيعي في الجسم، حيث يعزز الشعور بالسعادة إضافة إلى كونه ناقلاً عصبياً بين الجسم والدماغ، وإن وجوده بشكل متوازن في الجسم يساعد على لعب دور بارز في التحكم بالمهارات الحركية والاستجابات العاطفية، ما يجعله أساسياً للصحة البدنية والعقلية لدى الإنسان، وكأنّه أراد أن يقول إنّ هذه الحياة المأزومة ببشرها المأزومين تحتاج كثيراً إلى هذا الهرمون لكي تكون متوازنة.

ضمير المتكلم

تقع أحداث قصص المجموعة في مدينة لندن، وتعكس حياة المهاجرين العرب في أوروبا، وصعوبة اندماجهم مع هذه المجتمعات لاختلاف العادات والتقاليد والعقائد، ومحاولاتهم المدفوعة من إصرارهم على تحقيق ذواتهم وأهدافهم التي ما تغرّبوا وذاقوا مرارة الغربة إلا لتحقيقها.

تتألف مجموعة (دوبامين) من تسع قصص أخذت مئة وأربعاً وعشرين صفحة، استخدم الكاتب فيها ضمير المتكلّم "أنا" بحيث إن بطل كل قصة يروي ما حدث معه، وكأن الكاتب نفسه هو بطل كلِّ هذه القصص. 

ففي القصة الأولى "سيناريو" يبدأ الكاتب سردها بقوله: إذا ما قُدّرَ لي أن أعتليَ منصّةً وأخطب في نصف هذا العالم البائس.. الخ، فهو هنا يستخدم الضمير"أنا" وكأنه هو الراوي والبطل في الوقت نفسه، يتحدث فيها البطل المأزوم عن أحداث غير واقعية، ثم يصدّق أنها حدثت فعلاً، ويتعامل معها على هذا الأساس، وعندما يكتشف أنها مجرد خيال، يقوم بشرب كمية من الحبوب محاولاً الانتحار.

وفي القصة الثانية "الصفقة" يتخيّل البطل المأزوم أيضاً صفقة عرضها عليه جاره البريطاني زوج ماريا الجميلة، حيث عرض عليه تبادل الأدوار، فينتقل كل واحد منهما للعيش في منزل الآخر، ويمارس حياته فيه بشكل طبيعي، ولأن بطلنا شرقي تمنعه أخلاقه من فعل ذلك، رفض العرض بشكلٍ قاطع، لكنه تراجع في النهاية ليقبل بها، وعند ذلك يكتشف أن شقة جاره فارغة لا أحد يعيش فيها، وأن الأسرة تعرضت لحادث أليم منذ عامين، ومات جميع أفراد الأسرة، وأن ما مرّ به هو مجرد خيال لا أكثر.

في قصة "لحم فاسد" يبرز دور البطل المأزوم في كونِه أقدم على قتل ثلاثة أشخاص اختفوا في يوم واحد كان على خلافٍ معهم، وكان يشمّ رائحة كريهة في منزله رغم كل محاولاته لتنظيف الشقة بكل وسائل التنظيف المتاحة لكن دون جدوى: "هذه الرائحة ليست موجودة إلا في مخيّلة البطل كونه يشم رائحة فعلته الشنيعة"، لم يعترف البطل بقتلهم بشكل مباشر واضح، لكن تحقيق الشرطي معه كونه على صلة بهم وعلى خلاف أيضاً، جعله يتفوّه بكلمة "موتهم" التي أثارت استغراب الشرطي، وهذا يشير بشكل غير مباشر إلى تورّطه ربما بقتلهم، وتنتهي القصة بمعالجة البطل لتركيبة أسنانه المستعارة، حيث راح يتحسس بأصابعه أنياب ذئب برزت مؤخراً، وهي إشارة أخرى من الكاتب إلى كون بطله مجرماً أقدم على قتل هؤلاء الثلاثة الذين اختفوا.

في قصة "المفقودون" كان بطل القصة المأزوم من مدمني الفيس بوك، فالكاتب يعكس فيه واقعاً مَعِيشاً من أناس انقطعوا عن العالم الخارجي، وراحوا يغوصون في هذه الصفحات الافتراضية، فتحوّلوا مع الزمن إلى آلات لا روح فيها حيث سيطرت عليهم واقعاً وخيالاً وحوّلتهم إلى أشباح تمشي على الأرض.

وفي قصة "لصوص" يُبرز الكاتب شيئاً من القيم الأوروبية في تعاملها مع اللصوص، فصاحب البيت لا يستطيع مقاومة اللص؛ لأن القانون سيكون ضده إذا ما تعرض اللص إلى الأذى، وسيفرض عليه غرامة مالية تُعطى لهذا اللص في حال إصابته في جسده.

في قصة "أتمنى الخير للجميع" أبرز الكاتب معاناة المهاجرين العرب المسلمين في أوروبا، من ناحية العنصرية التي يواجهونها، لكن بطل القصة الذي طُرد من عمله في أحد المطاعم لا لسبب سوى أنه عربي مسلم، كان مأزوماً ذلك أنه عندما قرر الانتقام من صاحب المطعم، اشترى سكيناً حادة، ولأول وهلة سيظن القارئ أن بطلنا سيُقدِمُ على قتله، لكن المفاجأة كانت أنه انتحر أمامه وهو يدخل إلى المطعم بقطع وريد يده.

نظرية المؤامرة

في قصة "الكلمة المفقودة" يعالج الكاتب نظرية المؤامرة بين الواقع والخيال، فبطله هنا صاحب حسٍّ أمنيّ عالٍ جداً؛ إذ إنه يكتشف تخطيط مجموعة إرهابية للقيام بعمل إرهابي في مَعلَم تاريخي في لندن، من خلال حلّ الكلمات المتقاطعة، فيتصل بالجهات الأمنية التي بدورها لا تتفاعل معه بسبب أن استنتاجاته قائمة على حل الكلمات المتقاطعة في جريدة، وهذا غير كافٍ لتحركها، تنتهي القصة بذهاب البطل إلى المكان الذي يتوقع استهدافه، فلا يحصل شيء سوى شاحنة يقودها سائق متهور حاول دعسه، فنجا منه بأعجوبة، فلحق به ليجد الشرطة قد سبقته في تطويق الشاحنة التي دعست عدداً من المارة، يُنهي الكاتب قصته تاركاً للقارئ حرية في التفكير ما إذا كان ذلك صدفة أم عملاً مدبراً.

أما في قصة "أحد عشر رقماً" فنجد الكاتب يعالج محنة اللاجئ في البحث عن عمل، وفي خضم تراجيديا البحث المُضني نجد البطل يجد ذلك العمل، لكن كان عليه حفظ رقم الهاتف المؤلف من أحد عشر رقماً أملته عليه عجوز أسدى لها خدمة، لكنه لا يستطيع فيفلت من ذاكرته، ويحاول تدوينه على بعض الأشياء حوله، لكنه لا يفلح إلا بتدوين قسم منه، ليدوّن قسماً آخر على قطعة معدنية رقيقة تضيع منه في سلة المهملات، ليذهب يبحث عنها في أكوام الزبالة بعد أن دفع ثمن البحث للبلدية.. يصوّر الكاتب من خلال هذه القصة المعاناة الشديدة التي يعانيها اللاجئ للحصول على عمل، تنتهي القصة بتجميع الرقم كاملاً، حيث يقرر الاتصال بصاحبته غداً ليكون لاجئاً محترماً.

في القصة الأخيرة "انزياح طفيف في القلب" وهي قصة طويلة قياساً إلى ما قبلها نجد الكاتب يصور واقع اللاجئ الحالم الذي يحلم بعالم خيالي من الترف والشهرة، فالبطل فيها يمتلك موهبة خارقة في الرسم، يقوم بشراء عدة الرسم ليبدأ رحلة مسيرته الفنية في حديقة يرسم فيها كل ما تقع عينه عليه بشراً أو حجراً، فيحصل من وراء ذلك على قوت يومه، تنتهي القصة بتسلل البطل الفنان إلى متحف سالفورد ليقوم بتفكيك دراجة هوائية تُعدُّ تاريخية تعود إلى عشرات السنين، ثم يقوم بإخفاء قطعها في جنبات المتحف، ومن ثم يقوم برسم واحدة طبق الأصل بصورة مذهلة بحيث تجعل الناظر إليها كأنما ينظر إلى الدراجة الحقيقية، ينهي الرسام لوحته الخارقة وينتظر الصباح ليخرج من المتحف عند فتح أبوابه ويقوم بمراقبة الوضع حتى يرى نتيجة عمله، وهل سيكتشف الناس ما قام به، وكما توقع لم يكتشف أحد ذلك لبراعته في رسمها، فلربما يكتشفون بعد خمسين أو مئة سنة من تاريخ موته بلا ضجيج تحفته الفنية، فيصبح رجلاً عظيماً، حيث يكتبون تحت لوحته الخارقة العبارة التالية:"هذه الدراجة ليست حقيقية، هي لوحة مُتقنة رسمها فنان مجهول خدع بها العالم لعشرات السنين".

نهايات غير متوقَّعة 

استطاع الكاتب "حسيب الزيني" في مجموعته "دوبامين" أن يشد القارئ من أول كلمة إلى آخر كلمة في كل قصة على حدة، فعنصر التشويق الطاغي الحضور والمتقن في كل قصص المجموعة، يجعل القارئ مشدود الأعصاب على مدى قراءته لها، نظراً إلى مأساوية الأحدث في كثيرٍ من القصص، وعدم توقّع تلك النهايات الغريبة المفجعة لأكثرها، ضمن لغة قصصية بارعة يمتلك صاحبها أدواته الفنية باقتدار واضح، وقدرة فائقة على ركوب خضمّ هذا الفن الذي يحتاج إلى كاتبٍ بارع في اختيار ما يريد طرحه من أفكار ضمن سياقات فنيّة خالصة.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات