أرواد ذاكرة المكان والإنسان-6: الكورنيش التهمته تماثيل الأسد والمرفأ أغرقوا فيه سفينتين!

أرواد ذاكرة المكان والإنسان-6: الكورنيش التهمته تماثيل الأسد والمرفأ أغرقوا فيه سفينتين!

في  صيف ٢٠١٦ كنت أسكن في منطقة (النورماندي) الفرنسية، حيث قمت بزيارة  باريس لعدة أيام، ولاستكشاف المدينة، خطرت ببالي فكرة استئجار دراجة هوائية (مسكلي حسب لهجتنا) للتعرف على شوارع ومعالم هذه المدينة الساحرة، كنت قد نسيت تماماً أنه لم يسبق لي أن ركبت دراجة في شوارع المدن الضخمة، ولم يسبق لي أصلاً أن قُدتُها خارج جزيرة أرواد!

بعد عدة دقائق، وجدت نفسي محاصراً بمختلف أنواع السيارات والباصات، بأشكال وأحجام  مرعبة جداً (فعلاً شُبّه لي أن أحد الباصات الذي فاجأني بوجوده خلفي تماماً، وكأنه سفينة تايتنك)، تسبّبت وقتها بمشكلة في حركة السير بالشوارع، فألغيت فكرة الاستكشاف بالدراجة هذه وأتممتها سيراً على الأقدام، خوفاً من أن ترغمني الشرطة على ذلك أو تضعني قيد التوقيف، لما تسببت به من شلل في واحد من أهم شوارع المدينة في عاصمة النور.

دراجتي التي أرعبت كبار السن!

لم يخطر ببالي عامل الزمن أبداً، فآخر مرة ركبت دراجة كانت بالتأكيد قبل عام ١٩٩٥، أي على الأقل منذ ٢١ عاماً  في أزقة أرواد، ويبدو أن هناك فرقاً كبيراً بين ركوب الدراجة في تلك الأزقة، وركوبها بالقرب من متحف (اللوفر).

كنت بعمر السبع سنوات تقريباً عندما بدأ أخي بتدريبي على ركوب الدراجة. ربما دفع الكثير من أهالي أرواد ثمن هذا التعلم، وخاصة كبار السن.  كنت كالقدر المستعجل بالنسبة للكثير منهم، فكم عجوز وجد نفسه فجأة مستلقياً على الأرض بسبب ضربة مفاجئة مني من الخلف أو من أحد الجانبين.  لن أنسى صرخة أحد كبار السن يوماً (والله صرت خاف أطلع من البيت منك، والله عم فكر هجّ ع طرطوس وإرتاح)، يتبعها اعتذارات وتأسّف من أخي، وترجٍّ منه لتفهُّم الموقف، ولأن أخي محبوب كثيراً في الجزيرة، فقد كان الجميع تقريباً يتقبل الاعتذار على مضض. أعتقد أن الكثير من الأرواديين حمدوا ربهم عندما أتقنت بعد عدة شهور أخيراً ركوب الدراجة، (لا بأس من اعتذار هنا لجميع من تسببتُ له ببعض السقطات، و إن كان اعتذاراً متأخراً أكثر من ربع قرن).

الكورنيش الذي كان

هنا أتحدث عن أرواد أواخر الثمانينات، عندما كان هناك كورنيش طويل عريض. ممكن أن نستمتع فيه بركوب الدراجات الهوائية وبكل أشكال اللعب. كورنيش يمتد من السانسور في أقصى شمال أرواد الشمالية، إلى الرميلة في أقصى جنوب أرواد القبلية.

أعرف أن الجيل الجديد لا يعرف اسم هذا الحي (الرميلة) ، فقد كان حياً كبيراً نوعاً ما كله رمال.  كنا نعتبره ملعبنا وأماكن تسليتنا. كنت أجمع فيه مع أطفال آخرين صدف البحر، ونبيعها لأحد المحلات التي تصنع التحف. بمبلغ يتراوح بين الليرة والليرة والنصف، مبلغ كان يُدخِل الكثير من الفرح إلى قلبي لأنه كان بالسرّ عن أهلي أولاً، ولأنه منحني إحساساً بالنضج والرجولة،  فأنا رجل وأعمل وأكسب رزقي بعرق جبيني (كانت خرجيتي وقتها خمس ليرات تقريباً، أي ما أجمعه في يوم عمل، يعادل ربع  خرجيتي اليومية).

على كل، هذا الحي اندثر في منتصف التسعينات، وبُنيت فيه مقاهٍ ومطاعم وأبنية عدة، لم أعد أذكر صراحة الهدف منها.

جزيرة بلا سيارات ولا دراجات نارية

ولأن أرواد بلا وسائل مواصلات، لا سيارات ولا طرطيرات ولا حتى موتيسكلات، (وسيلة النقل الوحيدة كانت الطنبر، وهي عربة تُجَرّ بالكتف، مخصصة لنقل الأثاث غالباً) فقد كان هذا الكورنيش يعج دوماً بالأطفال. نلعب بما توفّر لنا من وسائل، من العفص (غلة أو بلور) التي لم أكن يوماً متمكنا باللعب بها، إلى ورق الشدة (ورق اللعب) التي تحوّلت لاحقاً إلى تجارتي المفضلة، وخاصة حين أصبحت تُطبع بصور فريق الكابتن ماجد، فأصبحنا نبيع الأوراق بعضنا للبعض الآخر بشرط اللعب معنا، لنكسبها مجدداً ونبيعها مرة أخرى جامعين ثروات طائلة من ذلك، تُقدّر بعشرات الليرات (وصل معي المبلغ ذات مرة إلى مئة ليرة)، ولعبة الدعس وفيها نرسم أشكال متنوعة بالطباشير الأبيض أو الملوّن على الأرض، ثم نبدأ بالقفز جارّين حجراً أمامنا، والمطّيطة التي نبدأ بالقفز بها من مستوى القدم إلى مستوى الرقبة، وهي جميعها ألعاب مختلطة. بعضها أكثر أنثوية لكن يلعبها الذكور (الدعس) وبعضها أكثر ذكورية تلعبها الإناث (ورق اللعب والعفص) وألعاب أخرى أكثر عنفاً ذكوريا، غالباً ما كانت تنتهي بصراعات بيننا، حتى يأتي أحد الرجال ممن يجلسون على أحد المقاهي، أو إحدى النساء اللاتي يراقبننا من إحدى البلكونات،  ليفرقنا ويحاول إحلال السلام بيننا!

ألعاب الطفولة مصدر رزق وتجارة

تحولت عندي هذه الألعاب (لعب الورق وتأجير دراجتي) إلى تجارة لاحقاً، أصبحت مهووساً بالنقود. العالم كله تحوّل عندي إلى أرقام ، أشتري بها مصباحاً كهربائياً (بيل)، أعتبرته دليل نضج حين أستخدمه في ليالينا المعتمة، أو عطراً  أو مسبحة، أسبّح بها الله مئات المرات في اليوم، كي أكسب جنة عظيمة في السماء. 

كان العالم كله بالنسبة لي رقم برقم، أدركتْ ذلك يوماً أختي، فاشترت لي كتاباً ما زلت أذكر عنوانه إلى اليوم (سرايا الرسول) واستغلت حبي للأرقام، ووعدتني بـ٢٥ ليرة إن قرأت الكتاب جيداً. قرأته بكل عناية، وعيني على الـ٢٥ ليرة، ثم أتبعتها بكتاب ثان وثالث، حتى خفّت حماستي لعالم الأرقام وبدأت بقراءة السيرة النبوية، ثم روايات: جين اير وأغاثا كريستي، ولاحقاً نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، فوقعت في عشق الكتب منذ ذلك الوقت وما زلت.... أي إني قادم إلى عالم الثقافة من ( التجارة ).

لا يتسع المقام هنا، لذكر كل أشكال عمليات البيع والشراء تلك، لكني واثق أن أكثرنا (و ربما جميعنا في أرواد الثمانينات) قد مارسنا تجارة واحدة على الأقل، من منا لا يذكر الورقة التي تضم مئة اسم أو أحياناً خمسين، يحجز كل  طفل اسم أو رقم  بليرة أو نصف ليرة، والاسم الرابح المخبّأ في منطقة بأعلى تلك الورقة (شيرين، ياسمين، ناريمان) يربح الهدية. هي أحد أشكال القمار لكنها مقامرة بريئة. أو تلك العلبة التي تضم مكعبات عديدة، ندخل بأحد المربعات إصبعنا، لنكسب ما بداخل المكعب. من منا في أرواد لم يبع يوماً (السيلالك)، أو (الحمدأة) المكونة من شراب الكمون مع حمض الليمون، أو حتى مشروب (الميلو). كنا نبيعه جميعاً على الكورنيش:  ملعبنا ومركزنا التجاري، ومكان لهونا وصراعاتنا، وأيضا بدايات قصص حبنا.

تمثالا الأسد اللذان التهما الكورنيش 

اندثر الكورنيش لاحقاً، فقد بنوا  تمثالاً أول للأسد  في منتصف التسعينات   قبالة مرفأ  الوصول تماماً، في واحدة من أكثر مناطق الكورنيش ضيقاً فزاده ضيقاً،  أصبحت حتى حركة الدراجة الهوائية صعبة، قيل إنه من البرونز الخالص  (لا أعلم حقيقة ذلك، وليس لدي خبرة في المعادن كي أتأكد)  وذلك قبيل تركي للجزيرة بسنة تقريباً، ولأفاجأ بتمثال آخر، بُني في منتصف الكورنيش في أرواد الشمالية، ثم أحيط التمثال بحديقة، فأصبح الكورنيش جزءاً من الذاكرة.

حاول الأرواديون التأقلم مع الوضع ، فامتدوا غرباً، و بنوا كورنيشاً آخر عند السور الفينيقي، لكن مكانه ليس عملياً،  لأنه في الغرب (تحدثت عن دلالات ذلك في مقال سابق في هذه السلسلة) وكثيراً ما تصله  الأمواج! 

أعلم هنا  أني ربما تكلمت عن تفاصيل دقيقة، ربما غير واضحة تماماً لمن لا يعرف  جغرافيا الجزيرة، لكنه واحد من أهم التحولات العمرانية التي شهدتها أرواد في تسعينات القرن الماضي، وساهمت في التقليل من جماليتها.

ثانوية أرواد في عهد الأسد: مبنى يشبه السجن

حتى ثانوية أرواد، كانت سابقاً قبل عام ١٩٩٤، جزءاً من القلعة ببناء رائع جداً، حميمي جداً، يفي بالغرض لسكان أرواد البالغ تعدادهم خمسة آلاف نسمة، يضم شعبتين لكل مستوى، لكن تم هجر هذا البناء لاحقاً، والانتقال  لبناء آخر يشبه السجون، تم زرعه أيضاً على الكورنيش 

لا أعلم ما سرّ تعلّق عقلية النظام بهذا الشكل القبيح من البناء، وكيف خطرت بباله توحيد أسلوب  العمارة للمدارس والسجون؟ ولا أعلم أيضاً السر وراء الإهمال الكبير لواحدة من أهم المعالم الأثرية فيها، وهو برج أرواد، الذي لم أدخله يوماً، ولم أره إلا من الخارج، وعرفت أنه جُدّد لاحقاً  بعد سفري إلى  فرنسا، تحول إلى مقهى وصالة للمناسبات!!!

حتى مرفأ أرواد، كان صغيراً جداً منذ بداية إنشائه، لكنه مناسب نوعاً ما لجزيرة صغيرة. وفي أواخر الثمانينات ونتيجة خلاف ما،  قاموا بحجز باخرتين ضخمتين نوعاً ما  داخل جسم الميناء  وتركوهما  بكل إهمال لتغرق على مهل، وتأخذ المساحة الأكبر من هذا الميناء الصغير أصلاً.

الإهمال.. لغة النظام التي يحدّث بها أرواد!

هناك إهمال كبير لكل معالم الجزيرة، على غناها وروعتها. رغم الحب الكبير للأرواديين لجزيرتهم، فلم أرَ يوماً أناس أحبوا مكانهم كالأرواديين، لدرجة أطلقوا اسماً على كل صخرة في الجزيرة ، على كل رامة ماء ، على كل زاوية  ومنطقة. هل تتخيلون!!!

سيروا معي من نهاية المرفأ  في الحي الشمالي (نعم سأنطلق بكم من هنا، فأنا بالنهاية ابن الشمالية)  فأول صخرة من السور الفينيقي اسمها الضهر الأبيض، صخرة صغيرة جداً، كنا نعتمدها كمنطقة سباحة في بدايات النهار، لكنها مخصصة غالباً للنساء في فترة بعض العصر.

بعدها مجموعة من الصخور اسمها الضهر الأحمر، ثم المحارة، بينهم رامة ماء صغيرة جداً اسمها رامة أم قدور.  المحارة، الخابيات، كلها أسماء لأجزاء من بقايا السور الفينيقي، وكلها أماكن عزيزة جداً على الأرواديين. 

أماكن للرجال فقط حتى إشعار آخر، هذا الإشعار تحدّده النساء بقدومهن. غالباً مع بعض الأطفال الصغار للسباحة، مصحوبة بالأراكيل والقهوة،  فيصبح المكان  بشكل فوري محرّماً على كل الذكور، وعليهم أن يجدوا مكاناً آخر للسباحة، فالمرأة هي الأساس في عادات أرواد، وعلى الجميع احترام وجودها، رغم ما يسببه ذلك أحياناً من غيظ للرجال  حين يضطرون لترك أماكنهم، لكنها التقاليد،  وللتقاليد قداستها   في أرواد. وهي المرأة، وللمرأة  مكانة خاصة في المجتمع الأروادي، مكانة سيشغل الحديث عنها، مساحة لا بأس بها في حلقتنا القادمة.

الحلقة السابعة والأخيرة السبت القادم

التعليقات (5)

    حسان منصور

    ·منذ سنة 7 أشهر
    مبالغات كل كلامك وتزيين لواقع مر ونحنا اهل ارواد بنعرف وزواريبنا ضيقة

    Mohammed Said

    ·منذ سنة 7 أشهر
    I do not see any exaguration here. Dr. Ahmed talks about his experience. Best wishes

    إلى حسان منصور

    ·منذ سنة 7 أشهر
    أستغرب يا اخ حسان اتهام كاتب هذه المقالات بالمبالغة وكأنه لم يتحدث عن الواقع المر؟ ألم يقل أن الجزيرة تعاني من إهمال فظيع في الخدمات؟ ألم يتحدث عن الكورنيش الذي حرم منه سكان أرواد؟ ألم يتحدث عن تخريب الميناء؟ ألم يتحدث في حلقة سابقة عن أن أرواد كلها لا يوجد فيها مستوصف أو مشفى؟ أنت تخلط بين بهجة المشاعر الحلوة التي يتحدث بها الكاتب من وحي ذاكرته وبين واقع الخدمات المر ولا تميز بين الاثنين؟ فلا تتهم الكاتب بالمبالغة بلا وجه حق

    أفلاطون

    ·منذ سنة 7 أشهر
    أحسنت الوصف ... و كما أرواد كل جزء من سورية عاش تلك المظالم و عانى من سوء إدارة نظام عسكري طائفي و حاقد على البلد و أهلها لأنه دون و يشعر بالدونية .

    لاذقاني من الصليبة

    ·منذ سنة 7 أشهر
    لا أخال شعبًا ظلم في سوريا كشعب اللاذقية وطرطوس ( من أهل السنة )ونال النصيب الأكبر من الظلم في المدينتين أهالي حي الصليبة في اللاذقية، وأهالي جزيرة أرواد (الزيرة) في طرطوس. فأبناء الصليبة وأبناء أرواد أيتام على موائد اللئام في بلادهم، يسامون الإذالال والاضطهاد والتمييز والكثير الكثير من التنمر أينما كانوا وحيثما حلوا ...
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات