الأغنية الوطنية السورية بين نظام هابط وفن رخيص

الأغنية الوطنية السورية بين نظام هابط وفن رخيص

تعتبر الأغنية الوطنية بمثابة تعبير عن الهوية الوطنية، حيث تمثّل كما النشيد الوطني للبلاد، تقاليد وتاريخ ومعتقدات الأمة وشعبها، وتعكس تاريخ ونضالات وتقاليد الأمة وشعبها، ومن ثم فهي تقوم على استحضار مشاعر حب الوطن واستثارتها وتجييشها لدى أبناء البلد، وتذكّرهم بمجد وطنهم وجماله وتراثه الغني، كما لها دور في توحيد مواطني الدولة من خلال الكلمات واللحن الذي يُشعرهم بالحماسة ومشاعر الانتماء وحب الوطن.

التلاعب بوعي الجماهير

كان للأغنية الوطنية السورية مكانتها في استثارة العواطف وتخليد بعض الذكريات الوطنية قديماً، وارتبطت بذاكرة السوريين مثل أغنية "زيّنوا المرجة والمرجة لينا" وتغنّت بها الأجيال إلى وقتنا هذا، التي تغنّت بشهداء السادس من أيار إبان العهد العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي مثلّت أغنية "يا ظلام السجن خيّم" التي كتبها ولحّنها نجيب الريس عندما كان سجيناً في أرواد عام 1922، كذلك أغنية "بلاد العرب أوطاني" في الثلاثينات لمؤلفها فخري البارودي، وبعد أن تمكّن حزب البعث من الاستيلاء على السلطة قام بمنح الفن الهابط مجموعة جديدة من المعاني والقيم من قبل القائمين على الثقافة الجماهيرية الاشتراكية والتي تعتبر نسخة باهتة عن الاشتراكية السوفيتية، نجم عنها المجتمع الاستهلاكي الجديد أو المجتمع الجماهيري، والذي يتماشى مع فكرة النظام الشمولي برعاية الدكتاتور الأسد الأب الذي أقصى النخب اليسارية الممكنة والثقافة الإقليمية، وقام بالتلاعب بوعي الجماهير، والتحكم في أفكارهم وآرائهم الثقافية من خلال تقليل احتياجاتهم الثقافية إلى الإشباع السهل الذي تقدمه المؤسسات الرسمية. ما أدى إلى تمحور الأغاني الوطنية حول الأسد الأب وتمجيده بل وتأليهه في بعض المطارح، ليغيب الوطن عن الأغاني الوطنية ويبرز هو القائد الأوحد الذي يُغنّى له، وكانت أغانٍ مثل "جبهة المجد" "أبو باسل قائدنا" "تسلم للشعب" والتي كانت الشغل الشاغل لوزير الإعلام آنذاك أحمد إسكندر أحمد ثم من أتى بعده، وبعد توريث الحكم للأسد الابن استمر نهج التغني بالقائد مثل أغنية "منحبك" لشهد برمدا برعاية (سيرتيل) حتى اندلاع شرارة الربيع العربي بدأ التحول الكبير بحيث أخذ منحى الهبوط ينحدر أكثر على الساحة الفنية ليحمل طابع الابتذال والانحطاط، خاصة على صعيد الأغاني الوطنية، تلك التي تعبر عن المرحلة الحساسة والمرافقة لصراع النظام من أجل بقائه في السلطة، فكانت تطبع المرحلة في مناسبات وطنية عديدة وتؤرخها مثل انتخابات الرئيس وتجديد البيعة، والأعياد الرسمية، حيث تطلق أجهزة الدولة يدها وتستنفر من أجل شحن أغان تحت مسمى "وطنية" ، تمجّد فيها شخص الرئيس حين يترافق مع صوته وهو يقوم بإلقاء القسم الجمهوري، مثل أغنية "ملايين ملايين السوريين" وأغنية "نحنا رجالك بشار" والأغاني المرافقة لمسيرات التأييد.

مطربو الملاهي وظاهرة إزالة الثقافة 

كل ما سبق جلب تدريجياً معه تغييراً شاملاً في الذوق العام، عندما يتم تجريده من وظيفته وتعطيله واستخدامه كوسيلة رخيصة للدعاية السياسية، تكون المتعة الجمالية فنّاً هابطاً عديم القيمة، يستدعي النفور العام، لا يحتمل أية تأويلات بسبب سطحيته.

وكما حال الدكتاتوريات الكبرى التي تفضّل الفن الهابط وتنتجه مؤسساتها، وترضخ أي شيء من أجل تعزيز السلطة وتمكينها، ليكون الفن رخيصاً ومبتذلاً يحاكي تطلعات السلطة عبر أغان ذات طابع يقترب من الهزلي، كما استقدم النظام موجة من مطربي الصفوف المتأخرة "الشعبية" مثل المطرب علي الديك في أغنيته المباشرة " يا بشار متلك مين " أو منصورين بعون الله" وحسام جنيد. لكنه انجرف النظام إلى أبعد من ذلك حين صدّر مطربي الملاهي الليلة وأخرجهم للعلن، مثل بهاء اليوسف ونعيم الشيخ واستضافهم في الكثير من البرامج التلفزيونية، بعد أن كانت لهم مقاطع مليئة بالإيحاءات الجنسية وتقديم المشروبات الروحية في مقاطع تظهر كأنها تحدٍّ صلف ووقح لثقافة المجتمع السوري.

وأعتقد أن هذا الانجذاب إلى الفن الهابط بهذا الشكل يتعلق بظاهرة "إزالة الثقافة" وهي ظاهرة يتم فيها حرمان مجموعة معينة من جانب أو أكثر من جوانب هويتها، وقد ظهر هذا المصطلح في علم الاجتماع في المناقشات حول آثار الاستعمار وفقدان الثقافة لاحقاً، لطالما احتاج البشر إلى الحقائق ليؤمنوا بها. فبينما كانت هذه الحقائق في الماضي تميل إلى أن تنتقل عبر الثقافات، يتم إنتاجها الآن بشكل متزايد على الفور دون وساطة ثقافية، يعيد الفن الهابط تعريف تصورنا للحقيقة؛ إنها حقيقة خالية من الثقافة أو السياق، كذلك الدافع النرجسي، كما أعلنه رئيس النظام حول المجتمع المتجانس، بصيغة نازية واضحة، حول احتكاره لمبدأ المواطنة عندما لا يكون هناك ثقافي آخر، سيتم اعتبار "أنا" فقط أمراً مفروغاً منه، في أسوأ الحالات، ينتج هذا النظام "حقائق بديلة" وجاهزة ونظريات مؤامرة متمركزة حول الذات، وهي "نظريات هزلية" بسبب هياكلها النرجسية المؤكّدة للذات. من خلال التأكيد النرجسي على أحقيته في امتلاك كافة حقوق المواطنة. من الواضح أنه قد بذل النظام السوري جهوداً كبيرة عبر التكرار والتقليد والمحاكاة من أجل تكريس الرداءة وإعادة تدوير منظومة البعث، من خلال الإنتاج الضخم لأعمال فنية هابطة جعلها متاحة لأكبر عدد ممكن من الناس، مثل أعمال الأوبريت المشتركة التي تجمع عدداً من المطربين والفنانين، استغرق الأمر أقصر الطرق وأسهلها وأكثرها مباشرة، الولاء فقط لرئيس النظام ولجيشه، والتغني ببطولاته وتمجيد أفعاله من مطربين تغنّوا بأمجاد الجيش الطائفي ورئيسه، وصوروا لنا قصف المدن العريقة وصور جثامين الشهداء، من فئة علي الديك ونعيم الشيخ وبهاء اليوسف، ومجد موصلي، وحسام جنيد.

مواويل اللطميات والتحريض الطائفي

ساهم ذلك كله في تدنّي الذوق العام، عبر استغلال النهج الشعبوي، فمثلاً التغني ببطولات الجيش السوري والقوات الرديفة الروسية والميلشيات الأخرى، بطريقة سطحية ومباشرة على عكس طبقات النخبة التقليدية التي مارست الصقل والتنشئة في تقديرها لدقة التعبير الفني الحقيقي، افتقرت الحالة الجديدة إلى أي ذوق للبراعة، مفضلة الفن الصاخب والمباشر والمشحون عاطفياً.

وبعد أن كانت فيروز تصدح بأغانيها " قرأت مجدك" "أحب دمشق" " يا شام عاد الصيف" "سائليني" في قلب دمشق، بدأت في الساحات الدمشقية وعلى الحواجز ترتفع أصوات أغان جهادية تدعي الوطنية، بعضها على شاكلة المواويل الحزينة من فئة الرادود العراقي واللطميات التي تحمل تحريضاً طائفياً وقحاً. مثل أغنية علي بركات "المد العلوي تفجر والحلم الأموي تكسر" متأثراً بأسلوبية ميليشيا حزب الله الدعائية،  ومن المُسلّم به عموماً من قبل النقاد وحتى معظم الناس العاديين أن الفن الهابط بجوهره ليس بفن يحمل قضية ما أو يدافع عن مبادئ مصيرية كبرى، لكنه في الوسط السوري أصبح مؤدلجاً ذا طبيعة نابضية متشفية، مثل أغنية أبو شامة لبهاء اليوسف، و بطبيعة الحال، فإن فكرة الفن الجيد أو السيّئ هي فكرة زلقة ومثيرة للجدل، وفي النهاية من المستحيل تسوية تفسير واحد لما يجعل الفن جيداً، أو حتى ما إذا كان هناك أي شيء مثل الفن الرفيع الموضوعي، ومع ذلك، بافتراض أن هناك قيمة متفاوتة في الفن وأن أحد الأعمال الفنية يمكن أن يكون أفضل من عمل آخر، لكن أن يحمل تلك الصبغة الطائفية فمن المؤكد بأن الفن الهابط سيكون في أسفل الهرم، تلك هي مسيرة الأغنية الوطنية السورية الموجزة عبر التاريخ، تحاكي وتظهر كمرآة حالة الانحطاط والانحدار للنظام الأسدي البائس.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات