ينطلق فيلم (الإفطار الأخير) للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، الموالي للنظام الحاكم في دمشق الذي قتل وهجّر وشرّد الملايين من السوريين، ينطلق من الحرب في سوريا، فلا يفصل عبد اللطيف بين واقعها والمتخيل فيها، وقد اختار عبد الحميد التعمّق في أبطال مفترضين على قياس مخيلته الموالية التي لا تخلو من نزوع طائفي علوي مزمن، فجعل منهم مادة سينمائية لا تفاجئ المشاهد في ممارسة أدوارهم في الحرب، لكن فشل في جعلهم شخصيات تُدمن الحياة والسينما في آن واحد.
مخبرون وموالون وشبيحة!
يحاول عبد الحميد في فيلمه الأخير أن يجعل من الثورة السورية حقيقة تاريخية لحدث فرض مجرياته على حياة الناس لا أكثر، إدمان على الحرب في واقعه السينمائي المتخيل، لا يجعل من الفيلم وثيقة نقدية، بمقدار ما هو "تشبيح" سينمائي ينحاز للقاتل في الرؤية دون أن يحتاج لخطاب لغوي يُفصح عن هذه الرؤية.
السينما في فيلم (الإفطار الأخير) محاولة مقاربة تعطي مسحة جديدة للموالين من شبيحة ومخبرين، "سامي" يقوم بدوره عبد المنعم عمايري خياط للمسؤولين الكبار، هنا مسحة جديدة من المقاربة، الموالي بثوب التشبيح ملاك من السماء، بطل شعبي من أبطال نجيب محفوظ، بطل شعبي يساعد الناس بلا منّة أو مقابل، يكرس حياته للآخر؛ لغة ساذجة سينمائية جعلت من سيناريو الفيلم للمخرج نفسه، هزيلاً ورديئاً، حيث فشل برسم شخوصه كأبطال ميثولوجية إغريقية..أو بلغة النقد المعاصر.. أبطال سينما.
اختار عبد الحميد خطاً واضحاً في مقاربته السينمائية؛ خلفية سينمائية يندفع فيها الموت إلى تجسيدات الحياة المثالية، "رندا" تقوم بدورها الممثلة الصاعدة كندا حنا، أبرز الهوس التشبيحي الذي يتحكم بعدد من المخرجين السوريين، في مقارنة بين أبطال الثورة السورية وأبطالها من الضفة الموالية، رندا في المشهد الأول تضع قبلة على فم سامي، داعيةً إياه على إفطار "ملوكي" أعقبه سماعه نبوءة موت زوجته من لسانها، طالبةً منه الزواج من بعدها؛ لا أداء لا تعبير لا سلوك تمثيلياً من المشهد الأول يبدو فيه السياسي طاغياً على الفني.
الإخلاص لرواية النظام
وفي نقده السينمائي لا يغوص عبد الحميد في الحرب السورية بمقدار إنساني؛ بقدر ما يغوص السيناريو بمعرفة المخرج وارتباطه برواية نظام قتل وسجن وهجّر وشرد ودمّر وخرب.
تتطلب لغة السينما المعاصرة من المخرج معرفة مزدوجة، حتماً، وهذا هو العالم السينمائي الأصعب، الذي يتوغل بين عالمين لا يتقاطعان في نقاط مشتركة، والاقتصار على عالم واحد موالٍ بلون طائفي لا يقنع المتلقي أن هذه المشاهد السينمائية حيّة بمقدار ما هي مخيلة آحادية تتسم بالكذب والتلفيق والتدليس والتزوير والانحطاط الفني.
يكمن العمق السينمائي في تحول سامي إلى "نجم الشارع"، حيث تتقدم الشخصية في بيئة حربية ملموسة، ولكن صياغة الشخصية لا تتحرك في ضوء نظريات اجتماعية وسيكولوجية وسينمائية-فنية بمقدار ما هو تغريد على ضوء الخيال.
لا يدين المخرج عبد الحميد عبد اللطيف مجرمي الحرب السورية، ولا يهتم أصلاً في الحرب كمسار خلافي في التقييم والاستنتاج، بل يتوغل في سيرة الشبيحة والمخبرين كعينات تتصرف في الشارع وفي الحياة العامة وفي مواجهة الحرب، من يشاهد الفيلم يعرف مقدار ما هو متخيّل أنه بعيد عن أرض الواقع، هؤلاء لا نراهم أبطالاً في الواقع بمقدار ما هم أبطال بكاميرا عبد الحميد.
القتل السينمائي معادلاً للقتل الواقعي
لا تستطيع كاميرا المخرج عبد الطيف عبد الحميد تجميل صورة الشبيحة والمخبرين والتي تكونت عنهم بالحرب والتي هي ممارسات خارج القانون والعرف والعادات، فلا يمكن أن يجعل الشبيح والمخبر مغايراً عن هذه الصورة النمطية، فلم يتوغل فيه بحثاً ودراسة، هي السينما، تحتاج لمقومات جديدة بين الحين والآخر.
الحميمية المفرطة في الفيلم تعكس سيكولوجية عبد الحميد حين أبرز فيها "الذكورية المفرطة" بمقاربة شخصية سامي التي تميل للهيمنة، أظهر الجانب الغريزي فيه وترك مسار القبل وقمصان النوم بعيدةً عن إيقاع القنابل خارج غرفة النوم.
أعتقد؛ أن "الذكورية" أو "الرجولية" هي التي تدفع الشبيح للقتل، والمشهدية السينمائية الأكثر واقعية من المتخيل السينمائي، فيتقمص المخرج دور الذكورية السينمائية التي تدفعه للقتل السينمائي، الذي لا يقل فيه قتل الدم عن القتل الفني، لهما نفس الأثر والرائحة واللون، إنه الموت الأسود بصرياً.
تجربة المخرج السوري عبد الطيف عبد الحميد في اقتناص جانب حميمي من شخصية الموالي في فيلم (الإفطار الأخير)، تقدم خلطة تشبيحية مقززة، بعيدة عن الرصانة والنزاهة وجاذبية الأسلوب، وقريبة من الاعتماد على ذاكرة متخيلة للحرب، واضحة وفاشلة في دمج الخاص مع العام، وهو في النهاية يشكل مرجعاً سينمائياً غير موثوق أو بعبارة أدق.. مرجعا مضللا ومزورا عن الحرب والأسباب.
التعليقات (5)