في تعقيدات المشهد السوري.. صراع فوقها أم صراع عليها؟

في تعقيدات المشهد السوري.. صراع فوقها أم صراع عليها؟

في مقال بعنوان "عن سوريا .. كذبة أهميتها وموقعها الإستراتيجي" يقول الكاتب عهد الهندي: "نشأ السوريون معتقدين أن بلدهم مطمعٌ للدول الاستعمارية، وأنّ دول الغرب والإمبريالية الأميركية تتربّص بسوريا كي تسيطر عليها نظراً "لموقعها الإستراتيجي" وثرواتها، لتأتي الثورة السورية ويُدرك من خلالها السوريون، أن الغرب من ناضلوا تاريخياً لعدم سيطرته المتوهمة على سوريا، لم يتدخل فيها رغم دعواتهم العديدة والمتكررة له ورغم وجود الحجج العديدة لهذا التدخل. يبدو هذا الكلام دقيقاً إلى حد ما، لكنه لا يصح بالنسبة لكافة القوى الدولية والإقليمية التي تفاعلت مع القضية السورية، فبينما هي لدى الولايات المتحدة قضية ثانوية، تعتبر لدى البعض الآخر، وخصوصاً القوى الإقليمية، قضية مصيرية. لذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة أن تبقى بعيدة تماماً عن هذا الملف، فالصراع الإقليمي المحتدم على سوريا جعل واشنطن تنخرط بهذا الملف، ولكن عن طريق إدارة الأزمة وبأقل تكلفة ممكنة.

في الواقع، لم يكن كاتب المقال موفقاً عندما استخدم كلمة "يُدرك"، فالسوريون لم يدركوا حتى الآن أن قضية الموقع والثروات ليست أكثر من قضايا متخيلة، بل هم وبطريقة خاصة ومبتكرة في المقاربة وجدوا أن ما يحصل من صراع إقليمي ودولي فوق سوريا هو البرهان القاطع على أن معتقداتهم حول أهمية الموقع ووفرة الثروات كانت في محلها. إذ يتم عرض الموضوع بكل بساطة وكأنه هجوم جماعي للقوى الدولية والإقليمية كل يريد حصته من الكعكة السورية الدسمة كما يقولون، بينما الواقع يشير إلى غير ذلك، فحتى العام 2015 رفض الغرب التدخل العسكري المباشر في سوريا إلى أن تدخلت روسيا بشبه مباركة أمريكية. فالولايات المتحدة لم تكن ترى لسوريا أية أهمية تستحق المجازفة من أجلها.

أما روسيا التي كانت قيادتها تتحضر لمعركة استعادة الهيبة والمكانة الدولية نظرت إلى سوريا كقاعدة متقدمة خارج نطاق محيطها الإقليمي تكون منطلقاً لخلق نوع من الشراكات والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا. وهذا ما عبر عنه تقرير "مجموعة دراسة سوريا"، ففي أكتوبر 2018، تم إنشاء "مجموعة دراسة سوريا" لدراسة ومراجعة وتقييم أهداف الولايات المتحدة، وتقديم توصيات إلى الكونغرس الأمريكي حول الإستراتيجية العسكرية والدبلوماسية للولايات المتحدة في سوريا.  وحول فكرة الاستهتار الأمريكي جاء في التقرير: "استهانت الولايات المتحدة بقدرة روسيا على "استخدام سوريا كساحة للنفوذ الإقليمي". حقّق تدخل روسيا ابتداء من سنة 2015 هدفه المباشر المتمثل في الحفاظ على النظام كتحدٍّ لدعوة الولايات المتحدة لـ "رحيل" بشار الأسد وذلك بتكلفة منخفضة نسبياً. في هذا السياق عززت روسيا مكانتها وهيبتها على نطاق أوسع في الشرق الأوسط". 

وحول الكيفية التي تتجلى من خلالها أهمية الشأن السوري جاء في التقرير: "منذ بداية الأزمة السورية سنة 2011، استهان الأمريكيون بمدى استمراريتها وحدود خطورتها ومدى تأثيرها على أهم المصالح الوطنية للولايات المتحدة ... وتجدر الإشارة إلى أن سوريا تشكل تهديداً على الولايات المتحدة من خلال خمسة مخاطر رئيسية:

أولاً، يتواصل تهديد خطر الهجمات الإرهابية المتأتّي من سوريا على الرغم من تحرير الأراضي السورية من قبضة تنظيم الدولة.

ثانياً، استغلت إيران انهيار سوريا بصورة ناجعة للمضي قدماً في محاولتها للهيمنة الإقليمية وفتح جبهة جديدة في إطار حملتها التي شنّتها ضد إسرائيل، ما زاد من خطر اندلاع صراع إقليمي على نطاق أوسع.

ثالثاً، مثّلت سوريا انتصاراً إستراتيجياً بالنسبة لروسيا، التي استفادت بالمثل من الحرب لتنصيب نفسها كوسيط منافس وذي نفوذ وموثوق به مقابل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

رابعاً، أطلقت حملة العنف الوحشية المستمرة التي يشنّها الأسد ضد الشعب السوري العنان لتدفق أعداد هائلة من اللاجئين، مشكلة مأساة إنسانية كانت لها آثار سياسية واجتماعية مزعزعة للاستقرار في عدة بلدان، بما في ذلك الدول الأعضاء في حلف الناتو.

خامساً، أدّى الانتهاك المتواصل للمعايير الدولية الأساسية، التي لطالما دافعت عنها الولايات المتحدة على مرّ التاريخ، إلى تآكل التصوّرات عن مفاهيم القوة والمصداقية التي تشيد بها الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم في نفس الوقت، منذرة بإمكانية نشوب نزاعات في المستقبل. علاوة على ذلك، فإن هذه التهديدات متداخلة ويعزّز بعضها بعضاً. 

يحاول التقرير أن يقدّم نظرة مخالفة لنظرة الإدارة الأمريكية، لكنه رغم ذلك لم يتحدث عن أهمية الموقع ووفرة الثروات، لكنه يشير بكل وضوح إلى ما ذهب إليه هذا المقال بأن قضية الموقع والثروات ليست أكثر من قضايا متخيلة، وأن روسيا تنظر إلى سوريا كقاعدة تنطلق منها ليتمدد نفوذها إلى مناطق ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لها.

إن تعقيدات المشهد السوري ليست دليلاً وبرهاناً على إستراتيجية الموقع كما يعتقد الكثيرون، بل هي (التعقيدات) تكمن في مكان آخر قد نجد تفاصيله فيما ذكره "رايموند هينبوش" في دراسته: "تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث" بقوله: لقد قرر الموقع الجغرافي لسوريا قدرها التاريخي. إن كونها جسراً برياً بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، والتي ولدت (التنقلات والغزوات) تعددية ثقافية اجتماعية. إن التركيبة الجغرافية المعقدة لسورية شكلت أساساً بيئياً لتعددية اقتصادية اجتماعية عززت بدورها الاختلاف الثقافي. هذه التعددية، والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاماً شاملاً موحداً ينتج قوى مكافئة تشاركية. كما إن سوريا، التي كانت جائزة تنازعتها الإمبراطوريات المتنافسة، وربما بسبب موقعها المكشوف، لم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصّلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا ينزع إلى الابتعاد عن المركز. 

في كل الأحوال، سواء كان موقع الدولة ذا أهمية إستراتيجية أو لم يكن كذلك بالنسبة للقوى العظمى، فإنه يبقى الأهم بالنسبة لدول الجوار التي تعتبر الأمر بالنسبة لها مساساً بأمنها القومي. لذلك، ومما سبق يمكن القول: إن الصراع في سوريا هو صراع عليها بالنسبة للدول الإقليمية، استجلب صراعاً فوقها بين القوى الدولية، وقد عزّز هذا الصراع وزاد من تعقيداته البنية المجتمعية المجزّأة وذات الانقسامات العميقة.

 

التعليقات (2)

    سالم امين

    ·منذ سنة 7 أشهر
    تحليل جيد ومنطقي

    أنس زين الدين

    ·منذ سنة 7 أشهر
    كلام دقيق وموضوعي ، لكنه لن يعجب الكثير من السوريين ، وخاصة جماعة الثروات الباطنية ، )السيلكون ) هههههه
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات