الفن التشكيلي السوري يخسر رواده الكبار: إلياس زيات عاشق الأيقونات الذي تاجر نظام الأسد بجائزته التقديرية!

الفن التشكيلي السوري يخسر رواده الكبار: إلياس زيات عاشق الأيقونات الذي تاجر نظام الأسد بجائزته التقديرية!

في أقل من أسبوع، يخسر الفن التشكيلي السوري رائداً ثانياً من رواده الكبار. فبعد رحيل الفنان ممدوح قشلان في التاسع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي، يرحل في الرابع من أيلول/ سبتمبر الجاري الفنان إلياس زيات الذي توفي في بيروت عن عمر ناهز 87 عاماً ويشيع جثمانه اليوم الثلاثاء  (6/9) من كنيسة الصليب بحي القصاع الدمشقي.

تلاميذه يشهدون ويودعون!

وقد حفلت صفحات الفنانين والشخصيات الثقافية السورية بالكثير من كلمات النعي والرثاء التي وصفت الفنان الزيات بالأستاذ والمعلم، فكتب الفنان علي فرزات قائلاً: " معلمي وأستاذي الفنان العظيم إلياس زيات أفتخر وأعتز بك إن روحك مازالت بيننا تظللنا بابتسامتك ولطفك وإنسانيتك ورقة مشاعرك ودماثة أخلاقك ولطفك، فقد كانت حياتك فناً وفكراً وسلوكاً وإبداعاً وباقياً كحضارة سوريا "..

وكتب الفنان التشكيلي منير الشعراني: "الفنان الأستاذ إلياس زيات ظل معلماً لنا ورفيقاً منذ عرفته قبل أكثر من نصف قرن حتى فارقنا اليوم".

فيما روى الأستاذ ثابت سالم قصته معه في كلمات كشفت عمق شخصيته وفرادة أسلوبه ورؤيته للفن والحياة فقال: "في عام 1968 كنت طالباً في السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة وأيضاً في السنة الرابعة في كلية الآداب في آن معاً. كان أستاذ التصوير هو الفنان الراحل إلياس زيات، من ذكرياتي اللطيفة معه أنه كان علينا تقدمة مشروع تحسب علاماته مع الامتحانات النهائية، كان المشروع طبيعة صامتة وهو عبارة عن بعض الآنية وبعض من حبات البصل منثورة بينها وعلينا رسمها بالألوان الزيتية، كان المشروع يستغرق ساعات تفوق الخمس. حضرت إلى الكلية متأخراً قرابة ساعة لأنه كان علي أن أحضر محاضرة هامة في كلية الآداب لا يمكن تفويتها حول الشعر الحديث، وأذكر أن الشاعر كان هو تي إس، إليوت وقصيدتة بروفروك، وضعت ورقة الكانسون وبدأت بالرسم وأنهيت المشروع ضمن المهلة الزمنية وأنا سعيد جداً بإنجازي، سلمت المادة إلى الأستاذ إلياس فنظر إلي نظرة تأنيب وقال المفروض أن أعطيك علامة الصفر لأنك رسمت من خارج الموضوع، المطلوب أن ترسمه من زاوية مختلفة وليس من زاوية النظر هذه. طبعاً حضرتك جئت متأخراً لأكثر من ساعة لذلك فاتك المطلوب، ولكن كون لوحتك بديعة وفي غاية الإتقان سامنحك هذه المرة علامة خمسين من مئة وأنت في الحقيقة لا تستحقها لخروجك عن الموضوع.

(خريف معلولا) أشهر لوحات إلياس الزيات

استمرت علاقتي بالأستاذ إلياس ولم تنقطع واستمر في زيارتي والجلوس معاً على بلكونة بيتي فاستمع إليه واكتسب من معارفه وآرائه في الفن وربطه بالتاريخ والحياة، أبرز ما كان يلفت انتباهي في شخصيته هو صلابة موقفه (بل وعناده) تجاه من كان يسميهم (المتصلبطين) على الرسم والفن عموماً، كان يطلق أحكامه بهدوء وروية وبطء وبصوت ناعم خافت لكنه ينضح بالقوة والصلابة وعدم التساهل والمسامحة مع من كان يراهم دخلاء على هذا العالم الجميل والواسع".

مدارس متعددة وجماليات شرقية

وُلد الفنان إلياس زيات في حي باب توما الدمشقي عام 1935 نال شهادة الثانوية العامة من المدرسة الأرثوذكسية عام 1954 وتابع دراسة الرياضيات في جامعة دمشق عام 1954 - 1955، بالتزامن مع تعلمه فن الرسم على يد رائد الانطباعية الكبير ميشيل كرشة بين عامَي (1952 - 1955)، بعدها حصل على منحة من الحكومة السورية في الخمسينيات لدراسة الفنون الجميلة في أكاديمية صوفيا للفنون الجميلة في بلغاريا، وهناك تخصص بالتصوير الزيتي تحت إشراف الفنان إيليا بيتروفبين بين عامي (1956 - 1960)، وبعد تخرجه تابع دراسته في كلية الفنون الجميلة في القاهرة مصر عامي 1961 – 1962

خلال مسيرته الفنية الطويلة مرّ إلياس زيات على العديد من المدارس الفنية التشكيلية بدءاً من الواقعية - الانطباعية، ومروراً بولعه بالألوان الوحشية الصارخة، ثم تحوّله إلى التجريد لفترة قصيرة، قبل أن يتجه إلى التعبيرية في رسم الأشخاص.. لكنه في كل ما رسم كان صاحب بصمة خاصة، وذوق مترف جمالياً، استطاع بجرأة أن يتحرر من سطوة الفن الغربي وأن يعود إلى الشرق واثقاً ليستوحي من الفنون القديمة المنعكسة في الرسم والنحت الجداري والخط العربي.. من دون أن يتخلى عن تعبيريته التي نَحَت منحىً أكثر ذاتية وغنى.

جائزة الدولة التقديرية من نظام القتل والمجازر!

إلى جانب أعماله الفنية البالغة الأهمية والثراء، وإلى جانب دوره التأسيسي البارز في تأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وأثره التدريسي الهام الذي تركه ابتداء من عام 1980 وحتى خروجه على التقاعد عام 2000، على أجيال من الفنانين التشكيليين الذين أصبحوا أعلاماً على الساحة التشكيلية السورية والعربية، فإن إلياس زيات أضاف إلى كل هذا تميزاً في ترميم ورسم الأيقونات في الكنائس.. ففي عام 1973 تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة في بودابست باختصاص الترميم الفني. كما قام بدراسات على كيمياء الألوان وتحليل المواد في متحف الفنون التطبيقية فيها. ولم تكن دراسة إلياس زيات للكيمياء مجرد تفصيل، فقد تعامل مع ترميم الأيقونات كعلم، يجب أن تعرف الكيمياء والفيزياء وما طبيعية المواد التي تستخدمها كي لا تكون غريبة عن طبيعة المواد الأصلية.

عاد الزيات إلى سوريا وخلال ربع قرن الأخير من القرن العشرين قام بتزيين العديد من الكنائس في سوريا بالأيقونات والجداريات، ولا تزال أعماله الجدارية اللافتة وأيقوناته تزيّن أكبر كنائس دمشق؛ حيث اهتم بالأيقونة الشرقية واستلهم طريقة الأداء وبعض الجمل التعبيرية من الشكل الفني للأيقونة الشرقية الذي كان سائداً في القرن الثالث الميلادي التي سبقت الأيقونات البيزنطية.. أما لوحته الشهيرة عن بلدة معلولا فرغم أنها لا تنتمي لفن الأيقونات أسلوباً.. إلا أنها باتت أيقونة شعبية للمدينة، كما لوحته عن العشاء السرّي والصلب التي تزين كنيستها. 

 (زنوبيا) كما رسمها إلياس زيات عام 1990، زيت على خشب

في الوقت الذي كان نظام الأسد يرتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري الثائر في سنوات الثورة الأولى، قرر عام 2012 لتلميع صورته استحداث جائزة اسمها (جائزة الدولة التقديرية) وبالتأكيد لم يجد مستشارو القتلة من المثقفين أفضل من اسم إلياس زيات، ليكون ضمن الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية في دورتها الأولى.. ليس لمكانته الفنية التي لا يستطيع أي باحث أو منصف النيل منها بالتأكيد، بل لتسويق فكرة المتاجرة بالثقافة والأقليات معاً.. وفي نفس العام الذي قصفت فيه قوات النظام كنيسة أم الزنار الأثرية في حي بستان الديوان بحمص أواخر شهر شباط/ فبراير، قام بعد أشهر قليلة بمنح جائزة الدولة التقديرية لهذا الفنان التشكيلي البارز الذي اشتهر بمهارته في ترميم الأيقونات.. فكانت الجائزة عنواناً للتشبيح لا للتكريم، وللتضليل والتمويه لا لاحترام الفن وأعلامه ورموزه.

(الرقص والمدينة) لوحة: زيت على قماش-  2001

باحث وخبير تشكيلي

أخيراً,,, ففي سجل إلياس زيات الباحث والناقد التشكيلي العديد من المؤلفات الهامة منها (تقنية التصوير ومواده) الذي ألفه ضمن مقررات كلية الفنون الجميلة، وصدرت الطبعة الأولى عن جامعة دمشق عام 1981، ومثّل الزيات جامعة دمشق في اتفاقية التعاون مع جامعة «لايدن» الهولندية لدراسة الفن في سوريا في الحقبتين البيزنطية والإسلامية وذلك لمدة أربع سنوات، وقد أثمرت هذه التجربة كتاباً صدر في لايدن باللغتين العربية والإنكليزية عام 2000 كما عمل الزيات خبيراً في هيئة الموسوعة العربية في سوريا لتحقيق موضوعات العمارة والفنون منذ عام 1995 – 2001 وكان عضواً في مجلس إدارة احتفالية (دمشق عاصمة للثقافة العربية) عام 2008 

رحل إلياس زيات محفوفاً باحترام تلامذته وزملائه وكل من عاصروه وجايلوه.. رحل بعلمه الراسخ وفنه الباقي ولهجته الدمشقية المتذمرة التي رأت في دمشق "مدينة مصلوبة" لكنه بقي ككثير من الفنانين المخضرمين الكبار خارج ثورة الشعب السوري، وخارج ملامسة أحلام الحرية، وخارج التعبير عن موقف من الجرائم التي ارتكبتها ميليشيات أسد الطائفية لقمع تلك الأحلام، أو حتى رسمها.

(أسوان مصر) من أعمال إلياس زيات بالألوان المائية - 1961 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات