نحن وغورباتشوف

نحن وغورباتشوف

رحل غورباتشوف ولم يكن يدخل في روع أحد، أن الإمبراطورية الحمراء التي شكلت إلى جانب أمريكا القوتين الفاعلتين في تحديد مصير العالم، ستكون في خبر كان بعد وقت قصير من مشروعه المسمى بـ "البيريسترويكا" و"الغلاسنست". وحده مستشار الأمن القومي (بريجينسكي) أيام كارتر وصاحب كتاب (بين عصرين)، ترجمة دار الطليعة 1980 توقع في هذا الكتاب أن يعمل البيروقراطيون السوفيت على تفكيك الاتحاد السوفيتي. 

أجل، بعد خمس سنوات من صدور كتاب غورباتشوف، لم تعد الإمبراطورية الكبيرة موجودة.

ولكن ما علاقة العنوان: نحن وغورباتشوف بموته، بل من نحن ذاك الزمان؟

في منتصف الثمانينات دعت مجلة الأحزاب الشيوعية العربية "النهج" إلى ندوة كبرى بعنوان (البيريسترويكا عربياً)، وعقدت في دمشق، وحضرها مئات المثقفين من اليساريين العرب، وعدد من العاملين في السياسة كان من الراحلين: محمود أمين العالم وميشيل كامل، صلاح عيسى ونجاة قصاب حسن، وعصام الزعيم، وغالب هلسا، وفالح عبد الجبار، وصال فرحت، ومن الجيل الباقي: عبد الرزاق عيد، فيصل دراج، ماهر الشريف، أحمد برقاوي، وعدد كبير لم أعد أذكر.

ويومها ألقيت بحثاً بعنوان "نحن والبيرسترويكا" أدافع فيها عن التجديد الذي ينجزه غورباتشوف.

ظهرت في هذه الندوة ثلاثة اتجاهات: 

- اتجاه ضد غورباتشوف والبيرسترويكا وعلى رأسه: البكداشيون بزعامة (وصال فرحة بكداش) والروائي غالب هلسا. 

- واتجاه مؤيد تأييداً شديداً للتجربة وعلى رأسه عبد الرزاق عيد وفيصل دراج وأحمد برقاوي وصلاح عيسى وفالح عبد الجبار.

- واتجاه بين بين، متحفظ وقلبه على التجربة السوفيتية، كمشيل كامل ومحمود أمين وعصام الزعيم.

كان النقاش ساخناً، ويدور بين من هم مع تجديد التجربة الشيوعية، بإصلاح سياسي ديمقراطي وإصلاح اقتصادي، من جهة، ومن هم مع الدفاع عن التجربة السوفيتية، بوصفها أفضل التجارب الممكنة.

ولم يخطر على بال أحد من المتناقشين بأن التجربة كلها ستكون في خبر كان، وإن المعسكر الشيوعي بمركزه السوفيتي وأطرافه الأوربية الشرقية سينهار، ويعود إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي.

وإذا بالأحزاب الشيوعية الكبيرة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا تعود إلى الوراء حد التلاشي.

وليس هذا فحسب، بل إن المعجم الماركسي بكل مفاهيمه المتداولة راح يتبخر شيئاً فشيئاً.

كانت التجربة قاسية جداً على قوى اليسار الشيوعي، ووقعها أقل على اليسار الثقافي الذي راح يبحث عن مفردات ومفاهيم جديدة لفهم العالم.

ووقع اليسار الفلسطيني الذي كانت تمثله الجبهتان الشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي الفلسطيني الذي سيشهد انشقاقاً، في مأزق أيديولوجي .

أجل كان المأزق شديداً، تجربة كاملة، كانت الآمال معقودة عليها تنهار أمام أعين اليسار العربي.

كان المثقف السوري والفلسطيني والعراقي اليساري يومها ينشط في مجلتي (الهدف) و(الحرية). وطرح الحكيم جورج حبش يومها مشروع: مؤسسة عيبال ومركز الغد للدراسات. بوصفه مشروعاً تجديدياً ليجيب عن سؤال لماذا انهزمنا وكيف السبيل لصناعة المستقبل؟

كانت مؤسسة عيبال ذات نشاطات متعددة، دار نشر، وسلسلة (الثقافة للجميع) يشرف عليها أحمد برقاوي، والكتاب الدوري: (قضايا وشهادات) يشرف عليها فيصل دراج وسعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وجابر عصفور، لكن الجهد الأساسي كان فيصل هو الذي يشرف عليه.

أما مركز الغد فلقد افتتحناه بمهرجان كبير في منتجع صحارى، وحضره اليسار العربي. وفي هذا الافتتاح سمي جورج حبش رئيساً للمركز، وأحمد برقاوي نائباً للرئيس، وعين الروائي الصديق علي الكردي مديراً للمركز.

كان كل هذا النشاط بفضل غورباتشيف الذي أحدث انقلاباً عالمياً. ويبدو بأن هذا النشاط كان ثمرة مأزق وليس ثمرة نهضة، فلم يمضِ وقت طويل على مشروعنا حتى تبخر هو الآخر، إذ صدر عدد قليل من كتيبات (الثقافة للجميع)، وأربعة أعداد من الكتاب الدوري (قضايا وشهادات)، وبعض الكتيبات والندوات عن مركز الغد.

وأود أن أشير هنا إلى ظاهرة ذات دلالة، وهي العدد الأول من قضايا وشهادات الذي شارك فيه عدد كبير من مثقفي اليسار وأشرف عليه فيصل دراج وسعدالله ونوس.

هذا الكتاب الذي صدر باسم (طه حسين العقلانية، الديمقراطية ،الحداثة) لم يكن سوى رسالة اعتذار لطه حسين وتكفير عن ذنب ارتكبناه بحق العقلانية والديمقراطية والحداثة، وهي مفاهيم لم تكن من مفردات القاموس الماركسي الذي كنا نتداوله.

لكننا حين عدنا إلى طه حسين، إلى ما قبل الماركسية والناصرية والبعثية والإخوانية كانت العقلانية والديمقراطية والحداثة قد لفظت أنفاسها الأخيرة وبنى الاستبداد الشرقي العسكري لم تسطع الغربوتشوفية أن تضعفه. لقد انهار عالم ما قبل غورباتشوف، وما زال الانهيار مستمراً ومات غورباتشوف ونحن نعيش بانتظار عالم ما بعد غورباتشوف.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات