ليست حرباً وإنما إبادة جماعية متوحشة

ليست حرباً وإنما إبادة جماعية متوحشة

كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول محاولة العديد من الدول إعادة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع نظام القتل والإجرام في دمشق، وسعي بعضها الآخر الحثيث لمصالحة المعارضة السورية مع الأسد، لاسيما من قبل تركيا، التي صرح وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو منذ فترة قصيرة، بأنه "يجب علينا أن نجعل النظام والمعارضة يتصالحان في سوريا، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم".. رجع فيما بعد وأكد تحريف أقواله مصرحاً أنه: "استخدم كلمة مصالحة وليس سلام". لكن، مع ذلك، تم تثبيت كلامه الأولي، لأنه جاء في "وكالة الأناضول" التركية الرسمية!

أي سلام؟!

رغم معرفة الوزير التركي التامة بعدم اكتمال كل جولات الحوار الديكورية السابقة في "سوتشي" و"أستانا" و"جنيف"، وفشلها فشلاً ذريعاً؛ إلا أنه يضع "المصالحة" شرطاً لـ "السلام".. كذلك لم يوضح كيف ستجري هذه العملية؟ ومن سيقوم بها؟ وفي أي ظرف؟ ومن سيمثل من فيها؟... 

ربما نسي الوزير، أو قد تناسى، أن ما دار ويدور في سوريا منذ عقد من الزمن ليس حرباً بين أطراف متصارعة؛ وإنما هي حرب إبادة جماعية تقوم بها عصابة متوحشة احترفت التعذيب والتنكيل والتهجير والقتل ضد شعبها خلال نصف قرن من حكمها المقيت البغيض للبلاد؟! ربما نسي أيضاً كيف يمكن أن تكون المصالحة بين الجلاد والضحايا، وعلى أي أساس أخلاقي؟!! 

إن المصالحة بعرف الأسد الجلاد تعني عودة الناس الضحايا للإقامة طوال الدهر صاغرين مهانين مذلولين تحت أبواط ضباطه وجنوده وشبيحته وحزبييه ومخبريه، وليس عودة حرة تحفظ لهم حياتهم وحقوقهم بالعيش الكريم... إن المصالحة بالنسبة للأسد تعني الاستسلام وليس السلام، الذي يضع نهاية لمآسي حروبه الشنيعة ضد الشعب المسكين.

فرض الخنوع والذل على الناس

إن الأسد وجماعته لم يتعبوا من الحرب بعد، ولم تتوقف شهيتهم وشراهتهم للحم والدم السوريين.. إنهم لا يريدون تأسيس دولة ديمقراطية يسودها العدل والأمن والازدهار؛ ولا يريدون حتى الاعتذار على جرائمهم ومجازرهم التي ارتكبوها بحقنا عن وعي وسابق ترصد وإصرار... إنهم لا يعرفون كيف ينهون حروبهم الظالمة إلا بفرض الخنوع والذل والمهانة والخوف والرعب على الناس... لذلك، من يضمن أنهم بمحافظتهم على جيشهم وأجهزتهم المخابراتية وشرطتهم الطائفية لن يفتكوا بالسوريين على الفور، أو يقتلوهم حتى لو بعد حين، وفي أفضل تقاليدهم الدموية؟ 

العالم هو مجرد كابريه أو استراحة قصيرة للمقامرة مرحب بها من قبل الغالبية المترفة؛ لكنه ليس شيئاً مستقراً وموثوقاً؛ وسوريا كذلك ليست مستقرة ومضمونة ومحترمة، حتى إنها ليست دولة مارقة وفاشلة، بل هي مشروع خاص بآل الأسد، يستند وجوده واستمراره على دعم ومساندة بعض الجهات الإقليمية والدولية. وبشار الحاكم حالياً ليس إلا عاهرة تدور من طاولة إلى طاولة في هذا الكابريه العالمي من أجل إرضاء الزبائن، أو إيجاد زبون يدفع أكثر من الآخرين!

حتى ولو توقفت وتيرة حروب آل الأسد الكثيرة ضدنا لبضع الوقت وضعف نباحهم نحونا؛ إلا أنهم سيعودون من جديد وينقضوا علينا بنباح أعلى وأقوى تتطاير منه موجات اللعاب الطائفي السام؛ لأننا نعرف بأن "ما يسمى بالسلام في التاريخ لم يكن دائماً أكثر من وقفة مليئة بالخوف وأوهام القلب الجميلة بين حربين" - حسبما قال مارتن بوبر!

هل يمكن تحويل النازية إلى ديمقراطية مدنية؟

أريد أن أذكر هنا، بأن انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، لم يكن بفضل انتصار الحلفاء على الجبهتين الغربية والشرقية ومن ثم استسلام ألمانيا وإيطاليا.. إن السلام المنشود الذي وصلوا إليه، كان بفضل مشروع اقتصادي ضخم مشترك استطاع جمع الأعداء السابقين اللدودين مرة أخرى. ثم كانت هناك خطوة تالية لضمان السلام تمثلت في تحويل الديكتاتورية النازية السابقة إلى ديمقراطية مدنية دستورية من خلال "محاكمات نورمبرغ" واجتثاث النازية؛ إضافة إلى دعم قوي من الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدتها المالية الأولية التي قدمتها عبر "خطة مارشال" من أجل إعادة إعمار ألمانيا.. كل هذه المشاريع كانت عبارة عن أمثلة مهمة حول كيفية إنهاء الحرب بشكل فعال، وإرساء أسس متينة للسلام والأمن. لكن هناك تدبير مهم آخر لم يلقَ اهتماماً كافياً من البحث والدراسة حتى الآن، وهو "سياسة النسيان".. إذاً، كان لابد من نسيان الحرب وأهوالها حتى يكون لأوروبا مستقبل على الأقل!

وهكذا، ارتبط مشروع السلام الأوروبي ارتباطاً وثيقاً بـ"سياسة النسيان"؛ حيث كان تشرشل، الذي تعلّم دروسه جيداً من التاريخ؛ أكثر المتحمسين لهذه السياسة، لاسيما عندما خاطب طلاب "جامعة زيورخ" عام 1946 بالكلمات التالية: "سندير ظهورنا لأهوال الماضي ونوجه أنظارنا إلى المستقبل. بعد كل شيء، لا يمكننا تحمل عبء ثقيل لا يطاق من الكراهية والغضب بسبب معاناة الماضي. إذا أردنا إنقاذ أوروبا من المحاكمات التي لا تنتهي والموت المؤكد، فعلينا أن نؤمن إيماناً راسخاً بإمكانية وحدة شعوبنا ونسيان كل جرائم وأخطاء الماضي".

غالباً ما ساعد ميثاق النسيان هذا في دفع الأطراف المتعارضة للتفكير ملياً من أجل إيجاد مستقبل جديد واعد بعد الحروب العادية والأهلية. لكن كيف يمكن لهذا الأمر أن يساعد السوريين الذين خسروا كل شيء، إذا كان الشرط المسبق لمثل هذا الميثاق هو توازن القوى المتماثل قدر الإمكان؟

الحرب لن تتوقف من خلال المصالحات

عندما يُرتكب العنف ضد المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة، وتتحول الحرب إلى إبادة جماعية، فإن سياسة الصمت هذه لها حدودها الصادمة، فهي تدعم الجناة وتؤذي الضحايا.

إن الذاكرة يمكن أن تشعل الحرب من جديد، مسترشدة بمشاعر الكراهية والانتقام. هذا بالضبط ما حدث أخيراً في أوكرانيا: القتال تلاشى، أو قل توقف نوعاً ما، بعد عدوان روسيا عام 2014 وضم جزيرة القرم، لكن أسطورة التفوق العسكري الإمبراطوري المتدفقة بالعروق الروسية، حرضت مرة أخرى على القيام بعدوان جديد وضم أراضٍ في العمق الأوكراني.

إن الحرب لن تتوقف في سوريا من خلال المصالحات والمفاوضات واتفاقيات السلام، لأن روح الحقد والكراهية والتعسف مازالت شعلتها متقدة في دواخل الأسديين النتنة وبشكل ظاهر وعلني. 

كيف يمكن أرشفة الماضي وإنهاء الحرب، والديكتاتور ما زال حياً ويمارس إجرامه بكل أريحية وهدوء ودم بارد؟ كيف يمكن فعل ذلك وجراح السوريين ما زالت مفتوحة وتخرج ألماً فظيعاً من أعماقنا المكسورة؟ 

إذا قمنا بدفن ذكرياتنا المشبعة بالدم، وأفسحنا المجال للنهج الحواري الذي سيغرقنا الأسد في تفاصيله المملة من كل بد، فإنه سيقوم مرة أخرى بتسليح نفسه ضدنا، لأن الماضي لم ينتهِ بالنسبة له، ولم يتصالح بعد مع نهايته القريبة. 

كل شخص أُصيب في تلك الحرب سيعاني من ندوبها مدى الحياة، وسيحتاج فترة طويلة للشفاء من ذكرياتها المؤلمة... ربما يجد أولئك الذين نجوا من الحرب الأسدية دوافع للتسامح والعيش المشترك؟ ربما يجتمعون ويعبرون عن الحزن والذكرى المشتركة لعمليات القتل التي جرت بكل اللا معنى؟ ربما يبحثون عن طرق بديلة للعيش من خلال سيناريوهات تتعارض مع الخط الموالي للرئيس القاتل؟ ربما لن يكونوا مستاءين ويغفرون لبعضهم بعضاً، ويعيشون مرة أخرى كجيران؛ فنحن في النهاية سوريون! 

إن الحرب في سوريا ليست رواية غير مكتملة الفصول ويجب إكمالها كيفما كان، بحيث لا يهم إذا كانت النهاية ضعيفة أو مبتورة.. لن تنتهي هذه الرواية إلا بـ "happy end"؛ حيث يتم الإفراج عن كل المعتقلين وتقديم كل المجرمين للعدالة، وإعادة دفن الضحايا في الأماكن التي وُلدوا فيها وترعرعوا وعاشوا أجمل أيامهم...

 

التعليقات (6)

    Mohammed Said

    ·منذ سنة 6 أشهر
    "happy end"؛ حيث يتم الإفراج عن كل المعتقلين وتقديم كل المجرمين للعدالة، وإعادة دفن الضحايا في الأماكن التي ولدوا فيها وترعرعوا وعاشوا أجمل أيامهم... This statement is the most important one in Dr. Ali's article. Otherwise, Syria will be desolved to several "contonat" Thank you Dr. Ali.

    أحد حلول

    ·منذ سنة 6 أشهر
    الغرب هو و النسيان.. نعم ... لكنه النسيان الذي تلعب فيه المسألة اليهودية دورا بارزا ... يجب ان لا ننسى ان البناء و ترميم الجراح في الغرب بني على بقايا احلامنا في النهضة و الازدهار و التقدم .. يجب الا ننسى سياساتهم التي تعيقنا و التي نعاني منها و من نماذج دول و أنظمة مفصلة لحماية النسيان و التصالح و الازدهار في الغرب Hani Al

    Zeno

    ·منذ سنة 6 أشهر
    نعم صحيح عندما يعيدون شهدائنا وخاصة تحت التعذيب الى الحياة .. قد نفكر حينها بالمصالحة لكن الامل بالله كبير ولو بعد حين

    محمد احمدي

    ·منذ سنة 6 أشهر
    المقال صحيح جدا ما يحدث في إيران مشابه تمامًا لما يحدث في سوريا. شعارنا: لا نغفر ولا ننسى نعم ، ما دام الفاشيون في العمل ، طالما لم يحاكم كل مجرم متورط في مجرزة 1988 (قتل ٣٠ ألف سجين سياسي خلال شهرين) وعشرات الآلاف من جرائم القتل في الشوارع وفي مراكز التعذيب، أي أن كل قادة هذا النظام ، وخاصة خامنئي ورئيسي، لا سلام في إيران. الثورة مستمرة حتى ترسيخ الديمقراطية والحرية

    Firas

    ·منذ سنة 6 أشهر
    المعارضة تخطئ . ثم تشتم النتائج فلماذا دخلت المعارضة مناطق مدنية

    Waled

    ·منذ سنة 6 أشهر
    الحكومة السورية أنهت الفوضى الخليجية التي تسبب بعض الحثالة
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات