مطربو اليباب على مسارح الخراب في صيف سورية 2022

مطربو اليباب على مسارح الخراب في صيف سورية 2022

كان صيف سورية 2022 صيفًا ساخنًا وفقًا لمقاييس جوِّيَّة وسياسيَّة وفنِّيَّة متعدِّدة، وإن كانت حرارة الجوِّ قد زادت من أعداد محبِّي الشِّتاء الرَّحيم من جانب، فإنَّها أكَّدت من جانب آخر عجز المواطنين عن التَّأقلم مع جهنَّم هذا الصَّيف السُّوريِّ المستعر بعواصف شمسيَّة وأخرى سياسيَّة وفنِّيَّة. لقد تأقلم سكَّان هذه البقعة الجغرافيَّة المنكوبة منذ نصف قرن تقريبًا مع كثير من عواصف الشِّتاء ومنخفضاته برغم انقطاع المحروقات حينًا وشحِّها أحيانًا أخرى؛ فأشعلوا مواقد الحطب مرَّة، واقتدوا بالرَّسول الكريم، وتزمَّلوا بالملابس، وتدثَّروا بالأغطية الصُّوفيَّة مرَّات عديدة على مدار ألف وأربعمئة سنة بعد انقطاع الوحي، حتَّى جاءهم هذا الصَّيف المشؤوم؛ ليثبت عجزهم التَّامِّ عن التَّأقلم مع لهيب الصَّيف وسخونتين طارئتين: أولى سياسيَّة وأخرى فنِّيَّة، وهما تلفحان بهجيرهما مواطني هذه البقعة الجغرافيَّة المنكوبة بحكم أقذر عائلة وظيفيَّة في الشَّرق الأوسط والعالم منذ نصف قرن تقريبًا.

سوريا مسرح قديم متجدِّد:

أغرت القرية الشَّاميَّة في دمشق كثيرًا من المخرجين والممثِّلين بالانخراط في أعمال البيئة الشَّاميَّة، ودأب مهندسو الدِّيكور والسِّينوغرافيا على العناية بهذا المكان الجذَّاب لتوظيف جماليَّاته والاستفادة من فرادته بين مواقع التَّصوير الأخرى، والحقُّ أنَّ جمال البيت الشَّاميِّ والقرية الدَّمشقيَّة ليس جمالًا طارئًا وإنَّما هو جمال عريق، يرتبط بمراحل المدنيَّة الأولى، وحضارة لا يقلُّ عمرها عن عشرة آلاف سنة، انطلقت من أريحا في فلسطين وحلب ودمشق في سوريا، ثمَّ شُيِّدت المسارح اليونانيَّة في هذه البقعة الجغرافيَّة بعد وصول الإسكندر المقدونيِّ إليها في أواخر القرن الرَّابع قبل الميلاد، وحين أدركت الدَّولة الرُّومانيَّة أهمِّيَّة المسرح ودوره في أدلجة البشر انتشرت المسارح الرُومانيَّة على نطاق واسع في هذه البقعة الجغرافيَّة؛ فقام المسرح بوظائف متناقضة؛ كإمتاع البشر ومؤانستهم وتسليتهم وتقديم الرَّسائل الأيديولوجيَّة بطريقة ناعمة داخل العروض المسرحيَّة؛ ليكون سكَّان هذه المنطقة مواطنين نافعين وجنودًا صالحين مسخَّرين لخدمة روما، وحين وصل الفتح الإسلاميُّ إلى سوريا تراجعت أهمِّيَّة المسرح لأسباب عقديَّة وأخرى سياسيَّة، ثمَّ بعث أبو خليل القبَّانيِّ المسرح العربيَّ، وأعاد له شيئًا من ألقه في سوريا ومصر، قبل أن يتراجع المسرح مجدَّدًا أمام ثورات السِّينما والتِّلفاز ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ في وقتنا الرَّاهن.

جاكي شان في سوريا:

لستُ أدري إن كان هذا الممثِّل العالميِّ الشَّهير قد اطَّلع على تاريخ المسرح السُّوريِّ وتحوُّلاته، لكنَّ اختياره دمشق لتصوير بعض أعماله الأخيرة فيها كان حدثًا مهمًّا لا لجماليَّة البيئة الدِّمشقيَّة هذه المرَّة، وإنَّما لحجم الخراب الحقيقيّ والواقعيِّ الَّذي رصدته آلات التَّصوير، حين كان هذا الممثِّل العالميُّ يتجوَّل في أحياء دمشق المنكوبة من الحجر الأسود حتَّى غوطتيها الشَّرقيَّة والغربيَّة، ويبدو أنَّ تنكيل بشَّار الأسد بسكَّان سوريا ومنازلهم قد أغرى مخرجي أفلام التَّدمير و(الأكشن) ببيئة حقيقيَّة متاحة مجَّانًا ودونما أيِّ حاجة لإرباك مهندسي العمارة والإنفاق على مصمِّمي الدِّيكور والسِّينوغرافيا لإنتاج بيئة دمار وهميَّة، وهكذا فقد أفلح بشَّار الأسد مرَّة ثانية في الاستثمار في هذا الخراب، الَّذي صنعه بيديه، واستفاد منه صُنَّاع الأيديولوجيا والسِّينما والدّراما في لحظة خراب تاريخيَّة نادرة، قلَّما يكرِّر الزَّمان مثلها، ويقدِّم لهؤلاء الصُّنَّاع أسرة وظيفيَّة  مجرمة كعائلة الأسد المستعدَّة لتدمير كلِّ شيء مقابل الهيمنة على سكَّان هذه البقعة الجغرافيَّة، بوصفهم كومبارسًا بشريًّا لا بوصفهم رعايا أو مواطنين يتمتَّعون بأدنى الحقوق في أتعس الشَّرائع البشريَّة على مرِّ التَّاريخ؛ وهكذا اختلط الواقع بالسِّينما والدّراما، ورحنا نسترجع مشاهد لا نستطيع فهمها حتَّى هذه اللَّحظة، كمشاهد تقطيع الرُّؤوس وإحراق الطَّيَّار الأردنيِّ معاذ الكساسبة وتجوُّل بشَّار الأسد بين الأحياء الحلبيَّة الَّتي دمَّرتها طائراته في ظلِّ تصفيق الشَّبِّيحة، وهو يقول له لهم: (حلب بعيوني)؛ فعن أيِّ عيون يتحدَّث قائد عائلة الأسد الوظيفيَّة المجرمة؟ ولأيِّ يباب وخراب يصفِّق شبِّيحته في صيف سوريا السَّاخن؟

إدلب والشَّوايا بين نبيل فيَّاض وعمر سليمان:

تُعرف مجموعة بشريَّة كبيرة من سُكَّان البوادي والمناطق الشَّرقيَّة في سوريا باسم الشَّوايا، ويدلَّ هذا المصطلح على فئة من النَّاس مازالوا يتمتَّعون بكثير من شهامة الإنسان البدويِّ (الصَّائد الجامع)، ويعتزُّون بكرمهم وشجاعتهم ونقائهم وأصالتهم إلى حدٍّ كبير، وبرغم هذا فقد عبَّر الكاتب نبيل فيَّاض عن وجهة نظره ووجهات نظر من يدور في فلكه من سُكَّان السَّاحل السُّوريِّ ووادي النَّصارى، وكشف عن عجزهم عن التَّعايش مع الشَّوايا وأهالي إدلب إلَّا أنَّ مطرب الشَّوايا عمر سليمان أثبت لنا بالدَّليل القاطع أخطاء نبيل فيَّاض وأوهامه، حين عاد هذا المطرب، وغنَّى لسكَّان وادي النَّصارى: (ورني ورني دي ورني)، وقال لهم وفق بعض الرِّوايات: (اشتقت لسورية، أريد سورية، ولا أريد الحرِّيَّة)، وهكذا يبدو لنا أنَّ التَّعايش ما زال ممكنًا بشرط أن يتخلَّى بعض الشّوايا وسكَّان إدلب عن حرِّيَّتهم؛ ليكونوا عبيدًا عند نبيل فيَّاض ومن يحمل أفكاره المسمومة.

ملامح الهجير السِّياسيِّ:

حمل المتفاوضون على ملفِّ إيران النَّوويِّ خريطة سايكس بيكو إلى فيينا، وراحوا يعرضون على الإيرانيِّين الفُرس ما لذَّ وطاب من كعكعة خريطة سايكس بيكو مقابل تنازلات في الملفِّ النَّوويِّ، وفي ضوء هذا التَّفاوض نتفهَّم تعثُّر مفاوضات الحلول وتشكيل الحكومات في كلٍّ من العراق وسورية ولبنان واليمن، فقد تكون هذه الجغرافية كلُّها في المستقبل جوائز ترضية مقابل تنازلات في الملفِّ النَّوويِّ الإيرانيّ، برغم قناعتي الشَّخصيَّة التَّامَّة بأنَّ المفاوض الإيرانيِّ يستفيد من هذه المفاوضات في اللَّعب على الوقت لا أكثر، ولا ينظر إلى هذه الجغرافية إلَّا بوصفها أوراق تفاوض ثانويَّة، أمَّا ملفّ السِّلاح النّوويّ فهو ورقة قوَّته الجوهريَّة الَّتي لن يتخلَّى عنها أبدًا إلَّا بحرب تكسير عظام كبيرة، وهذا ما يُفسِّر بعض السَّخونة السِّياسيَّة الرَّاهنة على الملفِّ السَّوريِّ، ويضيء على بعض من أسرار المواقف و(التَّكويعات) الدُّوليَّة والإقليميَّة والطَّائفيَّة؛ فموقف وليد جنبلاط -على سبيل المثال- من الحكومة والرِّئاسة اللُّبنانيَّة قبل الانتخابات النِّيابيَّة اللُّبنانيَّة غير موقفه منها بعد الانتخابات في هذه الأيَّام.

نجوى كرم وهاني شاكر في مسارح العبوديَّة والخراب:

عرَّجتُ على بعض من ملامح هجير هذا الصَّيف من حيث المناخ والفنِّ والسِّياسة لأتحدَّث بعد ذلك عن دور الأنثروبولوجيا الثَّقافيَّة (اللُّغويَّة والفنِّيَّة تحديدًا) في الكشف عن العلاقة بين مُخرجات الفنَّان وتكوينه؛ فالإنسان الرَّقيق المتفائل يقدِّم مخرجات فنِّيَّة مفعمة بالرِّقَّة والتَّفاؤل، وهنا أستشهد ببعض من أغنيات فيروز والرَّحابنة وفضل شاكر، أمَّا الإنسان الَّذي يعيش الفشل، ويُكابد الخراب فإنَّه من الطَّبيعيِّ أن يحظى بلقب مطرب العلاقات الغراميَّة الفاشلة وفقًا للتَّسمية الَّتي أطلقها جيل ثمانينات القرن العشرين على هاني شاكر في حين سمَّاه آخرون بأمير الغناء العربيِّ، ولعلِّي أميل إلى التَّسمية الأولى، وإن كان اختيار المرء دليل عقله فإنَّ اختيار هاني شاكر مسارح البعث والعبث واليباب والخراب ليُغنِّي فيها في صيف سوريا 2020 واحد من أهمِّ الأسباب الَّتي تجعله مطرب الفشل واليباب والخراب؛ لأنَّ الأمراء الحقيقيِّين يحلمون بالحرِّيَّة، ولا يغنُّون للعبيد والعبوديَّة.

أمَّا نجوى كرم فليس غريبًا عنها أن تحضر مجدَّدًا لتُغنِّي في دمشق في صيف اليباب 2022 وهي الَّتي غنَّت لحافظ الأسد حين كان يقمع بمليشياته أهلها في لبنان، وقالت له: بنرفع إيدينا بعتمات اللّيالي، بنحلف عا (شرفنا) وعا اسمك الغالي!

أمَّا حلب فإنِّي آمل لفئة من أهل الشُّرفاء أن يحافظوا على سلامة ذوقهم، وهم الَّذين اعتزلوا كلَّ شيء في ظلِّ هيمنة الخراب وسيادة اليباب، وتركوا منابر (الشِّعر والثَّقافة والتَّشبيح) للأذناب والأذيال وأنصاف الشُّعراء والمثقَّفين والكُتَّاب، وهجروا مسرح قلعة حلب الشَّامخ بعدما هجره صباح فخري ونور مهنَّا وشادي جميل وحمام خيري، واعتلاه حسين الدِّيك وريم السَّواس، الَّتي يقتتل الشَّبِّيحة بسببها في هذه الأيَّام، وينقسمون بين فريق ينتظر أن تصدح له: (أكبر غلطة بحياتي، حبِّيت واحد واطي)؛ هذا الواطي كان بالأمس يقول للشَّبِّيحة: حلب بعيوني، وهناك فريق آخر يدِّعي الإحساس المرهف والذَّوق العالي، ويزعم أنَّ ذوقه لا يتقبَّل مثل هذه العبارات في الوقت الَّذي يشارك فيه هو ذاته كلَّ الشَّبِّيحة سخونة صيفهم وأفراحهم وأتراحهم أيضًا، وهناك فريق ثالث في حلب ودمشق وسوريا كلِّها يراقب حرارة هذا الصَّيف، ويقول في نفسه: ليس بعد العواصف الشَّمسيَّة والمنخفضات الجوِّيَّة إلَّا فرج قريب سيجرف كلَّ هذا اليباب، وسيأتي بعد هذه الصَّيف شتاء وربيع جديدان!

 

التعليقات (4)

    Mohammed Said

    ·منذ سنة 6 أشهر
    Excellent!

    أحمد المهاجر

    ·منذ سنة 6 أشهر
    أحسنت التوصيف أيها السيد تسلم الأنامل

    أحمد المهاجر

    ·منذ سنة 6 أشهر
    أحسنت التوصيف أيها السيد تسلم الأنامل

    فادي فارس

    ·منذ سنة 6 أشهر
    يا أيها الكاتب الشاوي الأدلبي (كما تسمي نفسك) والحوراني إذا بدك وكل المناطق المنكوبة لا داعي لشتم الفن والفنانين لأنك ستضطر إلى شتم جميع الفنانين لأن جمعيهم مع الحكومة السورية النظامية ويتغنوا بالرئيس الأسد باستثناء الإرهابي فضل شاكر ومغني مناطقكم المنكوبة المغمورين باستثناء الئرباطية ساري السواس إلا أن نقابة الفنانين أصدرت مؤخراً قراراً بمنع إقامة حفلة لها في سوريا والحمد لله.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات