قبل استفحال الخلاف القطري السعودي بشأن جدول أعمال الفصائل المقاتلة على الأرض خلال الأعوام الأولى للثورة السورية، حين كانت الأولى تجاهر بدعم الإخوان المسلمين وما يمثلونه واقعياً من تنظيمات مسلحة، والثانية كانت الأبَ الروحي للسلفية السنية المسلحة بكل تجلياتها فوق الجغرافيا السورية، كانت تركيا تقترح احتلال مساحة من الشمال السوري لإبقاء النازحين من أتون جهنم السورية داخل جهنم السورية نفسها، إذ كانت المعطيات المتوفّرة حينذاك ترجّح تدفق المزيد منهم إلى لعنة خيام الأمم المتحدة المؤقتة، تلك التي ستصير مع الوقت مساكنَ دائمةً لهم، أو موطئ قدم لهجرات واسعة ومتنوعة. حينها أيضاً لم توافق قطر ولا السعودية على المقترح التركي خشيةً من ذهاب سوريا إلى تقسيم مبكر، قد يستدعي إليه قوى أخرى مثل إيران وروسيا، ويحيل الصراع إلى وجهٍ آخر غير وجه إسقاط النظام السوري، والنتيجةُ أنَّ نظام دمشق لم يسقط بعد، وصارت تركيا متخمةً باللاجئين السوريين، وجاءت إيران وروسيا إلى مضافة بشار بدعوةٍ شخصيّة منه، ثم احتلت البلد، وصار الجميعُ محتاجاً للاحتفال بهذه البهجة السوريّة النادرة كل صباح، وإلى أجل غير معلوم.
اللعبة العقائدية على أصولها
كان ينبغي على مولود جاويش أوغلو وزير خارجية تركيا التكتّم على حديثه القصير مع فيصل المقداد وزير خارجية النظام السوري حين طارت كلماته من مدفنها في اجتماع دول حركة عدم الانحياز في تشرين الأول/ أكتوبر إلى العلن منذ مدة قصيرة، جاويش أوغلو لم يخفِ هواجسه بضرورة إجراء مصالحة بين النظام والمعارضة، وكأن الأتراك لا يعرفون النظام السوري جيداً، ولنقل إنّ تصريح وزير الخارجية التركي هو بمثابة أمنية سياسية لا أكثر ولا أقل، وبلاده وحدها تستضيف قرابة 3٫7 مليون لاجئ سوري، وتبدو معنيةً أكثر من غيرها بإنتاج حلّ لائق لأزمة اللاجئين لديها، ضمن شروطٍ منطقية وضامنة، وهي على أي حال ليست متوفرة ضمن اشتراطات الوضع الحالي للنظام السوري، إلا ما خلا تصريحاته العلنية المثيرة للغبار، ومثالها الفاضح ما صرّح به مؤخراً حسين مخلوف وزير الإدارة المحلية في حكومة بشار حين أعلن استعداد نظام بلاده لاستقبال جميع اللاجئين السوريين، وليس كما اقترح عليه عصام شرف الدين وزير المهجّرين اللبناني بإعادة 15 ألف لاجئ سوري من لبنان كل شهر. يهوى النظام السوري اللعبة العقائدية ويجيد ممارستها، فهي لا تكلّفه سوى إطلاق فقاعاتٍ صوتية، كلماتٍ يدحرجها دوماً بين ضفتي الصمود والتصدي، وبين شاطئي مكرمة العفو الرئاسي، وحضن الوطن الدافئ، هناك يزرع بعض الأشجار، ويرسم فوقها عصافيرَ بجوانح ملونة. يلهجُ بأن سوريا قوية، بجيشها واقتصادها وقائدها، يكذب ولا أحد يصدّق كذبَه ذاك سواه.
ما بثّه التلفزيون الرسمي للنظام عن وقائع حياة بعض العائدين إلى الحجر الأسود يكفي لاسترداد الوجهة الصحيحة للبوصلة لكل من سوّلت له نفسه مجرّد التفكير العودة، وذاك ضربٌ من الوسوسة لا يقع فيه إلا اللاجئون الذين مكرت بهم الحياة أكثر مما ينبغي، وعافت عظامهم أقمشة الخيام، وهلوسات الخلاص من داخلها، والتي لا تأتيهم على الإطلاق، بل ما يجنونه هو مجرد تعاقب مضجرٍ للفصول فوق رؤوسهم التي ارتفعت يوماً، ثم أراد لها العالم أن تنخفض، ويصير سقفها خيمة.
لا ماءَ ولا كهرباء ولا مدارسَ، يظهرُ بعض العائدين وكأنهم منفيون هناك، تحيطهم خرائبُ الحجر الأسود، تلك الأبنية المصابة بالصداع المزمن، والتي تحمل تذكاراتِ القذائف والرصاص. يقفون أمام كاميرا تلفزيون نظامهم، ويَعدّون على أصابعهم وأصابع المذيعة تفاصيلَ كارثة العودة، والتي يتشاركون جزءاً منها مع عموم السوريين في مناطق سيطرة نظام بشار، والذين باتت حياتهم أشبه بحياة اللاجئين إلى حد كبير!
المزيد من جهات اللجوء!
خلال العام الماضي لم يتم منح سوى نصف التمويل المقرر لخطة الاستجابة الإقليمية لدعم اللاجئين وتمكين الدول المستضيفة لهم من مواصلة استضافتهم دون إرهاقها من جرّاء ذلك. في حين تلّقت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين سبعة بالمئة فقط من المبلغ الذي تحتاجه لأعمال إغاثة النازحين داخل سوريا، والمقدّر بنحو 465 مليون دولار، وتلك نسبة متقشّفة للغاية تُنذر بمزيد من تدهور الأوضاع المعيشية لهذه الشريحة المحلية من السكان.
ليس بالسهل نسيانُ أنَّ حربَ التهجير كأحد تجلّيات الكارثة السورية قد دفعت بنحو 7 ملايين سوري للنزوح الداخلي، و6 ملايين سوري للجوء الخارجي، وهما رقمان يعادل جمعهما أكثر من نصف التعداد العام للسكان، وربما أن اللاجئين السوريين في لبنان هم الأكثر مكابدة لظروف اللجوء وتبعاته من أقرانهم اللاجئين في دول أخرى كالأردن وتركيا، ولم تثمر الحملات الدعائية التي غنّاها النظام بصوته في كل الحفلات التي ظهر فيها، مع قتامة ظروف اللاجئين التي تستعطف الخلاص سوى بعودة 36 ألف لاجئ فقط وفق ما رصدته مفوضية شؤون اللاجئين، وهذا رقم يتطابق مع الظروف غير الإنسانية التي تنعم بها مناطق سيطرة النظام السوري، والانهيار الاقتصادي المنطقي لمنظومة الإنتاج وقيمة العملة السورية هناك.
هو السقمُ بعينه ما يجعل القليل من النازحين يفكرون بالعودة، ويدفع بالكثير من الباقين في الداخل إلى التفكير بالترحال صوبَ كل الجهات الممكنة خارج سوريا، والتي صارت بامتيازٍ مدفناً للعائدين والباقين فيها على حدّ سواء.
التعليقات (0)